أبو سلام الكندي.. ذات مُفعمة تصدح بقوافي الحرية والاستنهاض

 

الرؤية- محمد علي العوض

تنطبق مقولة "الشعر ذاكرة الشعوب" تمامًا على ديوان "نشر الخزام" للشاعر الفحل أبي سلام سليمان بن سعيد الكندي (1960-1870) وإذا جاز لنا القول فإنّ شعر أبي سلام هو حلقة في واسطة عقد المرحلة الشعرية الإحيائية العمانية؛ بكافة مساراتها الموضوعية والفكرية، فهو كما يقول الدكتور محسن بن حمود بن محسن الكندي في تقدمته للكتاب ".. خليفة أبي مسلم البهلاني الرواحي الشاعر العماني الكبير في الاستنهاض، ووريث المحقق سعيد بن خلفان الخليلي ونور الدين السالمي في الرؤية والتوجه مع فارق في المستوى والأداء، وقرين الشعراء القضاة والمصلحين التنويريين الذين وُجدوا في عصره أمثال السيد هلال بن بدر البوسعيدي وعبد الله الطائي وعيسى بن صالح الطيواني وغيرهم)..

ينتمي شعر أبي سلام بحسب هندسة النص إلى مدرسة الشعر الكلاسيكي، الأمر الذي يشي بتمكن أبي سلام من اللغة، وسعة المخيال، وعمق الرؤيا الشعرية؛ لاسيما إذا اعتبرنا أنّ الشّعر القديم يمثل أُساس اللغة العربيّة بعد القرآن الكريم، والمرجع الرئيس للعربية من حيثُ المرادفات والتراكيب والبلاغة والنحو.

وبإمكان متصفح الديوان ملاحظة ذلك بسهولة ويسر فالقصيدة عند أبي سلام تسير على منوال قصيدة الشعر الجاهلي وحركة البعث والإحياء، فهي مبنيّة من أبيات وكل بيت مقسم إلى شطرين "صدر البيت" و"عجز البيت"، وفيها يلتزم أبو سلام بمبنى البيت والقصيدة من حيث تقيّده بقافية واحدة مع الالتزام التام بحرف الروي في عجز البيت، إلا أن تضطره الضرورة الشعرية لتغييره كما في ميميّة "بصدر كراجي قف" حيث يطالعك قوله:

إذا عاهدوا عهدا وفوا بعهودهم ** وإن فتحوا باب الفخار تقدموا

 

أيضا من مظاهر المدرسة الشعرية الكلاسيكية في ديوان أبي سلام ما يعرف بـ "استقلاليّة البيت" فكل بيت من أبيات القصيدة عنده مستقلّ قائم بذاته ودلالاته من حيث المعنى، ولا يحتاج لبيت آخر يكمّل معناه.

وشعره حافل بالموضوعات الشعرية وأغراضه المتعددة فديوانه الذي ينمّ عن درايته بعلم "العروض" وبحور الفراهيدي من كامل ووافر وطويل وخلافه، والذي حوى قسمين رئيسين هما "نشر الخزام" و"المنهج الصواب" جاء حافلا بأغراض الشعر المختلفة من فخر ونسيب ومديح وحكمة وشعر تعليمي ومخاطبات سياسية يصطبغ فيها الشعور الإنساني الفطري بالمواقف الفكرية المثالية.. ومتصفح الديوان يخلص إلى أنّ أبا سلام أخلص لوطنه ولقيمة الاستنهاض وشيوع التنوير؛ فهو في المقام الأول صاحب قضية ورسالة:

عمان انهضي واستنهضي الشرق والغربا ** ولا تقعدي واستصحبي الصارم العضبا

في شعره السياسي تناول أبو سلام مختلف أحداث عمان السياسية والعسكرية في ثوب قشيب، وحلل شعرية زاهية تفيض لغة وجزالة لفظ؛ وكما مصير كل المصلحين الاجتماعيين والسياسيين كانت ضريبة ذلك التناول أن تمّ نفيه إلى الهند، ولكن ذاك لم يفت ذلك من عضد عزيمته، بل أضحى معادلا لمرادف النبع وفيض القريحة الشعرية، وكشف عن ذات مفعمة بحب الوطن والتغنّي له بقصائد محبوكة تلمح في ثناياها وضوح الصورة البيانية وتمامها مثل قصيدته الشهيرة "عُمانيا":

لهفي على الوطن العزيز أضيعا ** وشريف قوم صار فيه وضيعا

لهفي عليه لو يفيد تلهفي ** أجريت من بعد الدموع نجيعا

 

لقد متح أبو سلام من معجم الشعراء الأوائل والمخضرمين ونسج صوره وتقنياته الشعرية على منوالهم، الأمر الذي يشير بوضوح إلى أنّ أبا سلام أعرف بالتمر، وغاص عميقًا في قراءة أشعار مالك بن الريب والأعشى وعنترة بن شداد وجرير وامرئ القيس، ويتضح تأثره أكثر بالأخيرين.. فمطلع قصيدتيه "لصب رمته" و"بين الجناة":

بين الجناة وبين عين الوادي ** عين رشفن سهامها بفؤادي

يتركن ألباب العقول بحيرة ** مثل الأسارف مالهم من فادي

 

يتناصان في مضمونهما مع قول جرير:

إنّ العيون التي بطرفها حور** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ** وهن أضعف خلق الله أركانا

وكذلك مع بيت امرئ القيس:

وما ذرفت عيناك إلا لتضربي ** بسهميك في أعشار قلب مقتل

 

والقارئ لمطلع قصيدته "طيف الحبيبة قد طرق":

"طيف الحبيبة قد طرق ** ليلا فأرقاني الأرق

تتبادر إلى ذهنه أبيات المرقش الأكبر:

 

سـرى ليلاً خيالٌ من سُليمى ** فأرّقني وأصحابي هُجودُ

 

وشكوى أبي سلام -في ذات القصيدة- من طول الليل وتقلب روحه على جمر الترقب والتساؤل:

فطفقت ليلي ساهرا ** مترقبا ضوء الفلق

يا ليل طلت عليّ هل ** ضوء الصباح قد انفلق

 

تذكرنا بطول الليل عند امرئ القيس أيضا:

ألا أيّها الليل الـطويل ألا انجلي** بِصُـبحٍ وما الإصـبَـاحُ منك بأمثل

 

كما أنه لم يغادر متردم شعراء المعلقات؛ فمثلهم أوقف مطلع قصائده على الأطلال والنسيب وابنة الكرم.. كما في قصيدة "هذي المنازل":

هذي المنازل قف بنا يا حادي ** وانزل فديتك نحو ذاك الوادي

ونقف في قصيدة "أتت ليلا" وبعض قصائده الغزليّة على ملمح طريف يذكرنا بأبيات الملك الضليل؛ مع تبادل في المواقف والأدوار فامرؤ القيس يجازف بزيارة خباء حبيبته ليلا بلا موعد مسبق:

سَموتُ إِليها بعد ما نام أهلها ** سموّ حباب الماء حالا على حال

فقالت سباك اللَه إنّك فاضحي ** ألست ترى السُمّار والناس أحوالي

أمّا عند أبي سلام فالمحبوبة هي من تزور الحبيب في خفاء مخافة أن يتبع أحد ما أثرها:

أتت ليلا تجر الذيل سكرا ** مخافة أن يقص القوم أثرا

ومن ذلك قوله أيضا:

أفدي حبيبا زارني ** في جنح ليل مدلهمِ

مستترا بقميصه ** والليل معتكر الظُّلَمِ

وكذلك:

أهلا بزائرة أتت والليل جن ** خوفا من الواشي ينم فتمتهن

مياسة الأعطاف تقصر خطوها **مذعورة فكأنها الظبي الأغن

 

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك