في الغرف المغلقة

 

 

مدرين المكتومية

في تلك الشقة الصغيرة التي تقع في الدور الرابع في إحدى بنايات بوشر القديمة أقطن أنا في غرفة صغيرة لا تكاد تتسع لكل حاجياتي، ولكن لا بأس بوضع أرفف إضافية تحمل ما يُمكن حمله من الكتب والمذكرات والهدايا الصغيرة وباقات من الأزهار الذابلة التي مات كل شيء فيها سوى بطاقة الإهداء التي لازالت تنبض بالحياة..  في تلك الغرفة المعزولة هناك نافذة صغيرة افتحها في كل أسبوع مرة لتتنفس الغرفة النقاء وتخرج من ثوب الكآبة لثوب السعادة، تلك الغرفة كل ما فيها مُجرد سرير بسيط ذي شرشف أبيض وتسريحة على منضدتها القليل من مساحيق التجميل وزجاجة عطر الشانيل، ومكتبة صغيرة تحمل بعض الروايات العاطفية التي استمتع بقراءتها بين الحين والآخر..

وقد لا يعلم البعض أنَّ الغرف المُغلقة تمثل حياة للكثير من النَّاس، أولئك الذين يمتلكون مزاجاً عالياً جداً، فهم يعيشون مع أنفسهم أكثر من الوقت الذي يقضونه مع الآخرين لأنَّ الغرف المغلقة تعطيهم فرصة لاكتشاف أنفسهم ولمخاطبة ذواتهم، وتعطيهم كذلك الفرصة ليشعروا بأنهم يمتلكون شيئاً ما لا يملكه غيرهم، وأنّهم استثنائيون رغم كل شيء وأنهم يعيشون حياة لن تتكرر فمن يملك الوقت لنفسه هو الثري الذي لا يعرف للثراء طريقاً إلا بنفسه.

وكما تعلمون ففي الغرف الصغيرة الضيقة هناك عوالم لا يعرفها أي شخص وهناك الاستقلالية والحرية وهناك الخطابات بكل أنواعها وهناك القسوة على النفس في كثير من المواقف، وهناك البكاء بأريحية دون شفقة وبؤس، خاصة وأن كثيراً من الدموع تخجل من السقوط أمام الآخرين، ولكنها تنهمر كالشلال حين تكون بمفردها، وهناك السعادة المُطلقة التي يستشعرها الشخص بقطعة حلوى الرفيلو أو لوح التويكس مع القهوة السادة.

وحين تعتاد على العيش بغرفة، تكتشف أنَّ لديك جيراناً يعيشون قصصاً كثيرة تشاهدها من خلال نافذتك وكأنها أفلام سينمائية، ففي البناية المقابلة في الدور الأول شقة مزعجة جميع سكانها خاصة الأطفال منهم يسببون الضجر لمن حولهم، يصرخون بصوت عالٍ ويعمدون إلى وضع نوافذهم مفتوحة، ويصرخون في آذان المارة، وفي الدور الثالث من البناية نفسها هناك فتاة بنفس التوقيت تحمل بيديها قهوة أو شاياً لا يمكنني التمييز، ولكنها تفكر طويلاً وبحزن وبملامح شاحبة وهي تدخن سيجارتها وتنفث دخانها بالهواء، لتُكرر ذلك مرارا وتكرارا وحيدة لم ألمح أحداً معها حينما أفتح نافذتي. أما في الدور السابع فهناك رجل وامرأة وحيدان دون أطفال، لا يفتحان نافذتهما إلا بخوف، ولا يستقبلان أحداً؛ يخرجان معاً بصمت، وإذا ما أطل أحدهم من النافذة يجري الآخر ليغلقها أو يغلق الإضاءة ليصبح ظلاما دامسا وكأنهما يهربان من أحد.

وأنا أعيش كل هذه التفاصيل من خلال نافذة غرفة صغيرة أراقب عبرها حيوات الكثيرين بذهول مطلق ففي الحياة الكثير والكثير ولربما هناك أسرار لا نعرفها تختبئ خلف كل نافذة وباب، ويمكن أن تكون هناك أقنعة تخفي ملامح الوجوه أيضاً، وكل ما تعلمته هو أن تكون وحيداً لا يعني أنك مجنون أو تعاني من مرض نفسي ولكن قد اخترت الخيار الصحيح، خاصة وأن الحياة لا تكلفنا أن نبذل للآخرين ما لا يشعرون بقيمته وعند أي عثرة يتركوننا ويرحلون فالوحدة في كثير من الأحيان نعمة يجب أن نشكر الله عليها.

 

madreen@alroya.info