تأملات في معنى الطفولة.. ومعها فطرة نقية تولد

 

مريم اللمكية

تمر السنون سريعًا فنكبر وتكبر معنا الأحلام، ونعتاد مع مرور الوقت على حمل أشياء أكبر من الألعاب والدمى الصغيرة الناعسة، ولكنَّ معنى الطفولة في داخلنا بفطرتها النقية يجب أن يبقى؛ ليستمر معنا الشغف في معانقة الطموح، فبين أحلام الطفولة وعالمها المليء بالمغامرات والبراءة والنقاء وبين الغد الحافل بالتحديات بطموحاته وأهدافه وغاياته نستمد الكثير. 

  في بعض اللحظات قد تشعر باليأس والخذلان وقد تتمنَّى لو أنَّك بقيت طفلاً لا يفقه من هذه الحياة سوى الفرح ولا يقصد سوى السرور، ولكن الحياة تمضي بك لتؤدي رسالة وجودك فيها، ولتفهم أنّ هذا الشعور رسالة ليبق معنى الطفولة حيًّا في داخلك، فتسترجع ما فقدته من الشغف والمرح والإصرار والصفاء تلك التي تملأ عالم الطفولة، وكما جاء في القول: "نحن لا نتوقف عن اللعب لأننا كبرنا .. نحن كبرنا لأننا توقفنا عن اللعب..". 

وكما قال أديسون وهو المخترع الذي خلده التاريخ: "أنا لم أعمل طوال حياتي أنا كنت أمرح فقط".   

  إنّ الطفل لا يعييه أن يبحث في الأشياء عما يضاعف في داخله البهجة ليرتد قوة إيجابية تنبع من داخله تريه الوجود من حوله جمالاً أخاذا، فتراه لا يعير من انتباهه في بعض الأحيان لأشواك الوردة وهو يقترب منها أكثر من الحذر عندما يعيد الكرة، ولا يرى في التراب اتساخ ملابسه، بل مادة يُعيد من خلالها مرارا وتكرارا هيكلة أحلامه الوردية التي تمليها على يديه الصغيرتين أفكاره الشغوفة بحب الاستطلاع ومشاعر قلبه الجياشة، حتى أنه ليخاطب ما يصنع بيديه من نسج خياله وكأنما بُثت فيما يصنع روح مرحة كروحه العاشقة دائمًا لكل جميل والمتعقبة أبداً لكل ما فيه معنى روحانيا متوقدا بالحماس كحماسه الدؤوب مشرقا بالنقاء كنقائه الآسر، إنّه شغف الطفولة المفعم بالحماس وهو معنى من معانيها العذبة التي لا بد أن تبقى في داخلنا. 

* "كلنا نكبر بسرعة وننمو فنفقد تلك النظرة الثاقبة إلى العالم، نفتقد لألأة الندى وظل الأوراق وصرير العنكبوت ونور النهار فنضيع وقتنا في القلق والتساؤل، فإذا بالنهار يمر وكلنا مغشي علينا ... كلنا ..." (بام براون). 

* "الحياة الدافئة الشغوفة تتأصل في حياتك فترفعك للعلم والرغبة والمعرفة والإحساس والتفكير والعمل، هذا ما أريد ولا أريد شيئاً سوى ذلك وهذا ما علي أن أعمل من أجله" (كاثرين مانسفيلد).  

* "إذا أردت القيام بشيء بشغف، بل من كل قلبك، بل من كل جوارحك، فقط في هذه الحال ستكون في قمة النفع، وتعطي قمة ما عندك، وتتربع على قمة القيم الفردية" (آن مورو لينبرغ).

  ومن المعاني الفطرية الجميلة في الطفولة الصدق، وأن تحتفظ به في داخلك فذلك يعني أن داخلك نقي، وما أجمل أن يتحقق الصدق فيغدو كما يجب معنى من معاني النفس لتكون أقدر على التآلف والتعايش بسلام مع كل من حولها وما حولها. 

  ومن الأشياء التي تَوَصَّل إليها العلماء اليوم بعد تجارب كثيرة "أن النظام الافتراضي لدماغ الإنسان هو الصدق ! كما أنَّ كل خلية من خلايا جسم الإنسان تحتوي برنامجاً يميل بطبيعته إلى الأشياء الحسنة؛ لذلك يصرف الدماغ طاقة كبيرة عندما يكذب الشخص"، ومما يدعم هذا الأمر ما يظهره الجهاز المسمى بجهاز كشف الكذب من مؤشرات تشير إلى اضطراب وعدم استقرار عند الإدلاء بمعلومات غير صحيحة.  

  وما أجمل أن تجد الابتسامة إلى قلبك طريقها دائمًا، وهذه هي الإيجابية والطمأنينة التي فطر الله عليها الإنسان، حتى إذا ما غطاها غبار الأحزان والأكدار عادت لتبرق في ثنايا الروح فرحاً وأملاً، فهي الأصل والأصل دائماً حقيقة لا تُخفى ولا تُمحى.        

وفي مرح الطفولة وبهجتها دروس كثيرة تتعلم منها معاني السعادة والصفاء فمعهما تكون أقدر على إيجاد التوازن المطلوب في حياتك، لذلك تجد أن لحظات تقضيها مع طفل وقد صفت نفسك وتهيئت للبحث عن السعادة هي لحظات مشرقة بالبسمات والمرح، تجدد في أعماقك ألوان البهجة.   

موقف: 

في إحدى صالات الانتظار بإحدى المستشفيات كنت أجلس بين المُنتظرين وأتأمل الأجواء من حولي، وبينما الجميع مصاب بغثيان الانتظار والملل تلفت نظري طفلة صغيرة في حوالي الرابعة من العُمر تشع من وجهها ابتسامة برَّاقة، وإذا بها بعد فترة جلوس قصيرة مصحوبة بالحوار الذي لم يهدأ لوالدتها بلغة لم أفهمها لكن لم يعييني ويعيي الناظرين إليها أن يلمس في حديثها الرغبة الطفولية المفعمة بالحيوية، وإذا بها تبتكر شيئاً آخر لتبق على بهجتها واستمتاعها باللحظات التي تمر مملة على المنتظرين سوى من نظرات وابتسامات انتزعتها بخفة دمها وطبعها الطفولي منهم وهم ينتبهون لها بين الفينة والأخرى فيراقبونها، وهي تشكل من قصاصات بطاقة العلاج التي تناولتها من والدتها مروحة جميلة ملأت بها أرجاء المكان من حولها مرحًا في حديث لا ينتهي مع والدتها.        

  يقول مصطفى صادق الرافعي في كتابه وحي القلم: " كن جاهلا ولكن مثل الجهل الذي يصنع لوجه الطفل بشاشته الدائمة، فهذا الجهل هو أكبر علم الشعور الدقيق"، فكأن نفس الطفل توأم للفرح والمرح حتى عندما تتلقى الأذى مما حولها تحيله بروحها الملائكية لتعود ردة فعلها إيجاباً، ألا ترى الطفل في أحيان كثيرة تزجره فيبتسم ابتسامته البريئة، وتعنفه فلا يعطيك من اهتمامه ووقته سوى نظرات لو تكلمت لقالت لك بملء فيها: علام تجهمك علام، ثم يعود للهوه ولعبه وكأن شيئًا لم يكن. 

  لذلك فإنّ احتفاظك بمعنى الطفولة في داخلك هو عودة لمعنى الشيء لا الشيء بحد ذاته، هو عودة إلى النقاء والصدق والبراءة، فالطفولة تمدنا بالطهر الذي نبصر معه الوجود ساحرًا جميلاً.  وتذكر أنك مهما كبرت ففي عيني والديك ما زلت طفلاً، وكأنهما كما كرسا جلَّ طاقاتهما في تربيتك صغيرا يكرسا الآن أيضا جلَّ أحاسيسهما ليذَّكرا هذا الطفل الكبير بأن يمرح كالأطفال ويفكر كالعظماء، ويحيا الحياة بمعناها الحقيقي نقيًّا مبتسما متفائلا متحديا للصعاب لا تفتر عزيمته في سبيل تحقيق طموحاته.       

  فسبحان من جعل الطفولة مرحلة من المراحل العمرية التي يمر بها الإنسان بل هي أولها لتكون أساس البناء، وجعل فيها كل ذلك النقاء والصفاء هناك حيث تكون الفطرة في أنقى صورها، وكأنها ذاكرة النقاء للعمر الذي يأتي من بعدها. يقول الله تعالى في كتابه العزيز : "فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" [الروم:30].  

ولنستمع إلى بعض من تردد صدى إبداعاتهم على فم الزمان ترنماً ماذا قالوا عن الطفولة ...

- الأديب الشاعر مصطفى صادق الرافعي يقول: 

"القاعدة في العمر أنَّه إذا كان الشباب هو الطفولة الثانية في براءته وطهارته، كانت الشيخوخة هي الشباب الثاني في قوتها ونشاطها؛ وما رأيت كالدين وسيلة تجعل الطفولة ممتدة بحقائقها إلى آخر العمر في هذا الإنسان؛ فسر الطفولة إنَّما هو في قوتها على حذف الفضول والزوائد من هذه الحياة، فلا يطغيها الغنى، ولا يكسرها الفقر، ولا تذلها الشهوة، ولا يفزعها الطمع، ولا يهولها الإخفاق، ولا يتعاظمها الضّر، ولا يخيفها الموت؛ ثم لا تمل وهي الصابرة، ولا تبالغ وهي الراضية، ولا تشك وهي المُوْقنة، ولا تُسرِف وهي القانعة، ولا تتبلَّد وهي العاملة، ولا تجمد وهي المتجوّلة؛ ثم هي لا تكلف الإنسانيّة سوى العطف والحب والبشاشة وطبائع الخير التي يملكها كلُّ قلب؛ ولا تُوْجِب شريعتها في المعاملة إلا قاعدة الرحمة، ولا تُقرِّر فلسفتها للحياة إلا طهارة النظر؛ ثم تتهكَّم بالدنيا أكثر مما تَهتمُّ لها، وتستغني فيها أكثر مما تحتاج، وتستخرج السعادة لنفسها دائما ممَّا أمكنَ، قّلَّ أو كَثُرَ" (الرافعي، 2004. ص686). 

- الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري المُلقَّب بـ (آخر الفحول)، وهو الذي عانى الأمرين لمواقفه النضالية في سبيل الوطن وقضايا الإنسانية يقول: 

  "رغم أنني قاربت التسعين فأنا في حقيقتي لمن لا يعرف هذا السِّر ذاك الطفل الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره، وكل كياني المتضارب المتصاعد المتنازل المتخالف المتناقض، يقوم على هذه الحقيقة الأولى من حياتي" (الجواهري، ذكرياتي، الجزء الأول. ص 39). ويلمس هذه الحقيقة الكاتب فُرات إذ يقول : "... يصل الجواهري عند ميلاد القصيدة إلى ذروة الانفعال والحساسية، والطريف أنه يصل أيضًا إلى قمة المرح" (الخير، ص 17).

 

بقلم: مريم بنت عبد الله بن ناصر اللمكي

 

تعليق عبر الفيس بوك