المشهد العربي المستقبلي

 

علي بن مسعود المعشني

في مُحاضرة للدكتور سعد الدين إبراهيم (عالم الاجتماع المعروف) بالنادي الثقافي عام 1989، استعرض المذكور الوضع العربي واختتم مُحاضرته باستنتاج غريب مفاده أنَّ المُستقبل العربي يتراوح بين سيئ للغاية وممتاز للغاية، وقد بدأت تلك النتيجة للكثيرين حينها ممن اعتادوا على التراتبية المدرسية والنتائج والمُعدلات الجامعية غير منطقية وغير مُتجانسة، ولكن الدكتور سعد عدَّد الأسباب التي ترجح سوء المُستقبل العربي وعلى رأسها الاستمرار في ذات السياسات وتكريس الشتات والفرقة والتناحر وانعدام الوعي والإرادة السياسية للتغيير، وبين المُمكنات الهائلة للأمة وثرواتها الطبيعية والبشرية وإمكانية توظيفها واستنهاضها.

في الحقيقة أنني كنت من المؤيدين جدًا لاستنتاج الدكتور سعد، فواقع حال العرب يدفع بمُمكنات كثيرة لا حصر لها تحتاج فقط إلى تضامن عربي جزئي أو كلي للنهوض لكي تصبح الأمة العربية رقمًا صعبًا في مُعادلات السياسة والتأثير الحضاري، ولكننا بلغ بنا اليأس والإحباط مبلغًا أفقدنا التسلح بتلك الممكنات وتوظيفها، وآمنا بأنَّ ضعفنا قدر مكتوب علينا، لهذا أصبحنا نأكل التراث ونقدس الماضي ونستنهض الأموات ليُحرروا ويُقاتلوا ويدافعوا بالنيابة عنَّا، في تجلٍ واضحٍ على عمق الهزيمة الموغلة والإنكسار النفسي الحاد الذي بداخلنا كشعوب وحكومات والذي جعلنا ننتج البؤس والفجيعة ونكررهما كما نكرر النفط حتى أصبح لدينا اكتفاء ذاتي منهما يفوق حاجتنا فأبقينا الفائض للأجيال القادمة لكساد سوقهما عالميًا كالفحم الحجري وأخواته.

في العام الذي تلا المحاضرة أي عام 1990 غزا العراق الكويت فعُدنا قروناً للخلف وأصبح كل هم الأمة في كيفية تجاوز آثار الغزو وترميم الأوطان وجبر النفوس، فهذا الزلزال بالتداعي أوصلنا إلى جملة من الكوارث التي نعيشها اليوم حيث أفقد الأمة جزءًا مهماً من مناعتها وقدراتها على المواجهة والبناء لغاية اليوم.

فقد كان في عام الغزو ثلاثة كتل سياسية عربية تتمثل في مجلس التَّعاون لدول الخليج العربية، ومجلس التعاون العربي (العراق، مصر، اليمن والأردن) والاتحاد المغاربي (المغرب، الجزائر، ليبيا، تونس وموريتانيا) فعلي الرغم من تناقضات تلك الكتل السياسية وهشاشة بناها إلا أنها كانت عامل نفسي مهم للشعوب والنُظم وكان يُمكن التأسيس والبناء عليها من قبل الأجيال القادمة والتي ستتجرد بلاشك من خصومات الماضي وشكليات الخلافات العربية وتستطيع النظر للأمور بعين زمانها ومنطق التَّضامن والتكتلات الكبرى في العالم.

لاشك أنَّ وضعنا العربي في الغالب الأعم كصورة الشخص الذي يترقب السعادة كهبة من الآخرين، ولا يُدرك حجم أدوات السعادة التي يملكها وتحيط به في وقت يشغل نفسه بما يملك الآخرون فيفقد عناصر سعادته ويتلبسه الحزن والإحباط.

مُشكلتنا الحقيقية ومعضلتنا الأزلية في الوطن العربي هي عدم امتلاكنا لرجال دولة يُمكنهم توظيف الممكنات وقراءة الواقع ببصيرة وواقعية لولوج المستقبل بثبات. وأهم عنصر في خلق رجل الدولة هي الثقافة الموسوعية للشخص والتي تنتج بفضلها مسؤولا ذا رؤية شاملة غير مُخلة بالواقع من حوله في الداخل والخارج.

فالمسؤول الذي لا يقرأ لا يُمكن أن يمتلك رسالة أو يُحدث تطويراً حتى في قطاعه ناهيك عن نظرته للدولة والعالم من حوله، ومن يستعرض بتمعن حديث الأستاذ طارق عزيز من زنزانته مع علي الدباغ المُتحدث الرسمي السابق للحكومة العراقية (وهو حديث موثق على الشبكة العنكبوتية) يقف على حقيقة التخبط الذي لازم العراق منذ عام الغزو ولغاية احتلاله والتنكيل به عام 2003م، والذي لخصه عزيز في ضعف القيادة والجهل الثقافي للمسؤولين العراقيين والذين انهمكوا في تقارير قطاعاتهم وجهلوا مايدور خلف ذلك وحوله وبالتالي قصرت نظرتهم ورؤيتهم للأمور إلى حد انهيار الدولة، رغم بعض مظاهر القوة هنا وهناك.

ففي الوقت الذي كان الكيان الصهيوني ينفذ مخطط اغتيال العقول المؤثرة في الوطن العربي من كتاب وأدباء وشعراء ومُفكرين ليُجفف منابع تأثير القلم ورصاص كلماته، ويمحو الذاكرة ويوهن العقل الجمعي للأمة، كانت النُظم العربية- ومازالت- تتجنب تلك الفئات وتعيق إنتاجها وانتشارها كالأوبئة والأمراض المُعدية، ففقدت الأوطان رؤى وعقولا وأفكارا كان يُمكنها جبر ضرر الكثير من العثرات والخطوات غير المدروسة.

ولا أكشف سرًا إذا قلت بأنَّ من أسباب قوة النظام في سوريا ومن أسرار صمودها الأسطوري هو حرص قيادتها على الالتقاء والتشاور بانتظام مع العقول الوطنية والعربية والدولية (كتاب، مُفكرين، صحافيين، أدباء، أكاديميين) من "أصدقاء سوريا" للوقوف على رؤاهم والاستماع لنصائحهم ومعلوماتهم عن كل قضية تتعلق بالشأن السوري والإقليمي والدولي. وتلك سنة منذ عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد وتوسعت كثيرًا في عهد الرئيس بشار للتفكير خارج الصندوق.

وبالعودة إلى المشهد العربي القادم، يمكنني القول بأنَّ إكراهات الواقع اليوم ليست كمساحات الأمل بالأمس، وما كنّا نسعى إليه ونُخطط له بالأمس سيُجبرنا الواقع على إنجازه والامتثال للظروف الموضوعية التي تحيط بنا اليوم.

كنَّا بالأمس نحلم بوحدة عربية ثم تواضعنا إلى عمل عربي مُشترك ثم تواضعنا في أحلامنا إلى درجة التضامن العربي فقط!! ففشلنا حتى في التضامن فأُكلنا يوم أًكل الثور الأبيض، فاليوم وبعد ست سنوات عجاف لم يبق بيننا من لم يشهد حجم الدمار والدماء في الوطن العربي، ويفترض ألا يبقى بيننا من لم يُفكر بأنَّه سيكون الضحية القادمة بنفس السيناريو والأدوات.

فسيناريو الربيع يستهدف الأمة بكاملها الفاعل منها والمستكين، ويراد منه ترويض الفاعل منها وزيادة جرعة المسكنة فيها إلى حد البهيمية المُطلقة. من هنا فلامجال للنأي بالنفس في هذا الظرف الحالك، بل لابد من المواجهة واستنهاض الممكنات.

فالربيع في حقيقته النهائية يسعى إلى تدمير الدولة الوطنية واستبدالها بميليشات متناحرة، وهذا معناه أنَّ العدو لم يعد يفكر في إفنائنا بل في منحنا حرية وطريقة الانتحار.

بعد غزو لبنان وخروج القيادة الفلسطينية إلى تونس عام 1982م، لو حدَّثت أكبر المتفائلين حينها بأنّه سيأتي اليوم الذي تقصف فيه قواعد العدو وقواته من جنوب لبنان ومن غزة، فسيعتبر كلامك بمثابة التبشير بولادة فيل وردي.

ثقافة المُقاومة هي الرد الحقيقي على الأعداء وهي المناعة الطبيعية للأمة من النحر والانتحار، فثقافة المقاومة لا تعني الاعتداء على أحد ولا الإرهاب بل الدفاع عن الحقوق الطبيعية للأمة، ككل أمة على وجه الأرض، والمقاومة هي فعل شعبي وردة فعل على ثقافة انكسار وهزيمة يُراد بسطها وتغليبها، ومن قبل جيل أريد له الخواء والتنزه خارج مسار التاريخ. ثقافة المقاومة اليوم تلتف حول الدولة الوطنية بقوة بل وحول النظم القائمة كذلك رغم كل التناقضات، كونها تؤمن بأنَّ الإصلاح هو السبيل وأن أيّ معركة في الداخل هي خدمة مجانية للأعداء وهدر لمقدرات الأمة. ثقافة المقاومة اليوم أنتجت جيلاً من الكتاب والفضائيات والأصدقاء حول العالم، بل وأجبرت نُظم سياسية فاعلة ومؤثرة على دعمها ومباركتها فأصبحت المقاومة دولا وجيوشا ومنظومات إعلامية وفكرية، وثقافة عابرة للأجيال والحدود.

العالم اليوم يتشكل من جديد والوطن العربي هو إيقاع وترمومتر هذا التشكل والهوية العالمية، والغريب أنَّ المستفيدين من هذا الواقع العربي الجديد هم من غير العرب!! رغم أنهم صناعه ومحوره.

وكما خرجت المقاومة من رحم الهزيمة ومرارتها عام 1982م، ستخرج أمة عظيمة من رحم معاناة الربيع، أمة متصالحة متآخية تسمو فوق الجراح والمذهبية والطائفية وتلتف حول الثوابت الكبرى، فقد كشف لنا الربيع حجم الزيف والعمالة وضرائب الفتنة والخروج على الدولة الوطنية، حيث زاد الربيع من قناعات العقلاء ورسخها وكشف ضحالة الجهلاء وفضحها.

الربيع اليوم في أوهن حالاته وخاتمة أحزانه، وفي السياسة والتاريخ فرضيات رياضية لا تخطئ ومنها أن الأمم العظيمة بلاءاتها عظيمة وتحتاج لصدمات عظيمة من حجم كارثة الربيع لتستعيد وعيها، وها نحن نستعيد وعينا اليوم لنستعيد مكانتنا.

قبل اللقاء: "تقول الصهيونية جولدا مائير في وصف الفلسطينيين بعد احتلال وطنهم: كبارهم سيموتون وصغارهم سينسون!!" (ليتها تبعث اليوم لترى مفتاح العودة بيد الرضيع الفلسطيني، وما أبلته المُقاومة).

وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com