حارة تراثية .. النماذج التي نتمنى

 

 

حمود بن علي الطوقي

قدِمتُ إلى مملكة البحرين في زيارة خاطفة للمُشاركة في المؤتمر العام السادس لاتحاد الصحافة الخليجية بضيافة البحرين التي تحتضن مقر الاتحاد منذ تأسيسه عام ٢٠٠٥، وهي مشاركة يحدث فيها العديد من المراجعات للصحافة الخليجية، والرؤية المتصلة بها حاضراً ومستقبلاً، بالإضافة إلى بحث سُبل تجسير العلاقات البينية للمناهج المهنية الصحافية، بما يتسق مع طبيعة المرحلة.

 

 

ضمن برنامج الزيارة الخاطف، أتيحت لي زيارة مكانٍ لفت نظري بطريقة غير طبيعية، على الرغم من أنّه قبل أربع سنوات - من الآن - كان مشروعاً قيد الإنشاء، وبين ما كان عليه وما صار إليه حكاية مختلفة تماماً، تذهل المقيم والزائر على حد سواء، وتفتح الأبواب، تاركة إيّاها مشرعة على حلم نتمناه نحن في السلطنة ..

 

 

(فريج لشيوخ)، هو حارة قديمة بالمسمى العُماني، مناخ حياة اجتماعية تقليدية، وبناء تقليدي من المواد الأولية الرائجة في ذلك الزمان، له هندسة خاصة، معتمدة على طريقة الحياة كما كانت في (البحرين أيام زمان)، تضوع فيها رائحة البحر والبساطة والتلقائية والإنسانية والجيرة والروح المنسجمة مع أُلاّفها، بمعمار داخلي وخارجي يعكس الصلة بين الحاجة إلى الستر مع الفسحة الداخلية واستمرارية الأسر في التواصل والتقارب والتوادّ في ما بينها.

 

(فريج لشيوخ) بالمحرق عبر تلك المرحلة من كونه ملاذاً لساكنيه، ليتحوّل إلى صورة مقرونة بالثقافة والسياحة والدهشة؛ الثقافة لكون هذا (الفريج) أصبح بمثابة جامعٍ لأشكال الحضور الثقافي الاجتماعي، من واقع المكتبات والقاعات المسرحية، وموئلاً لجمع الأسر في المُناسبات المختلفة للتعايش مع تفاصيل الفعل الثقافي في المملكة، سواء ما ارتبط بما سبق أو بما هو حاصل الآن؛ أما السياحة فلكون من يأتي إلى البحرين لابد له من أن يقوم بزيارة إلى هذا (الفريج)، ليس من أجل الاكتشاف فحسب، بل والاستمتاع بالمرئيات، والتلذذ بمشاهدة الطقس الهندسي كما يحكي عن سابق الأيام، والتعايش مع حيوات السكك والفترات الزمنية ليلا ونهاراً؛ أما الدهشة فهي خليط من هذا وذاك، فالأشكال المُختلفة التي تحيل إلى البنية الثقافية المتحققة من خلال هذا (الفريج)، والسياحة التي تجتذب الزائر والمقيم نحو التفاصيل التي لا تملها العين، ولا يُمكن أن تتنازل عن التقاطها كاميرات الهاتف المحمول أو الكاميرات الشخصية، لتكون ذكرى حاضرة ومديدة للتعبير عنها، كل ذلك بمثابة دهشة لا يُمكن تفويتها...

 

 

المُلفت للنظر في (فريج لشيوخ) هو أنَّ من قام بتنفيذه هي شركات القطاع الخاص، بإشراف رسمي من وزارة الثقافة البحرينية وهذا يعني أنَّ صناعة الثقافة والسياحة ليست رهناً بالحكومة فقط، وليست مناقصة على الحكومة توليها ودفع الأموال من أجلها، فما هو وطني يسهل التعامل معه بطريقة تنسيقية، وتفتح الحكومة للقطاع الخاص المجال كي يسهم في البناء السياحي الوطني، بما يعكس الاهتمام المشترك، في ظل فكر يفعّل الجذب الحقيقي لصناعة السياحة وأبعادها التأثيرية داخلياً وخارجيًا.

 

 

في السلطنة، ما أكثر الحارات التراثية، بل تكاد تكون كل مُحافظة حافلة بالعديد منها، ومع الوقت ربما ستضمحلّ وتذهب أدراج الرياح، وستذوي معها الذاكرة، وسترحل تفاصيل كان ينبغي الإمساك بها توثيقًا وتدويناً وتسجيلاً ؛ ولكننا في الوقت ذاته نتساءل عن غياب هذه (الحارات الثراثية) التي نتمنى أن تكون الوجهة السياحية، ونستغرب من غياب القطاع الخاص ومبادراته التي يمكنها - بالتنسيق مع جهات الاختصاص - تفعيل الجوانب الثقافية والسياحية، وفتح المجال للشرائح الاجتماعية كي تجد فيها متنفسها، كما يجد السائح المُختلف الذي يعبّر عن خصوصية المكان وثقافته.

 

 

نرى الفنادق، والمنتجعات السياحية، والقرى الإسكانية الاستثمارية، وغيرها من الجوانب التي يضخ فيها القطاع الخاص ملايين الريالات العمانية، إن كان لا بد من الدعوة المُباشرة لكبريات شركات القطاع الخاص، فربما يقع على الحكومة عاتق فتح باب المناقصات لإنشاء (حارات تراثية) ذات أبعاد مختلفة في الوقت ذاته، وأن تتسع الدائرة لتشمل المحافظات كلها، وجدولة الزيارات السياحية الخارجية بحيث تمرّ عبرها لتقرأ تاريخ السلطنة عبر نماذج تلك الحارات، وإن أمكن صناعة ذلك فليكن، ففي التاريخ العماني خصوصياته التي ستدفع السائح إلى المشاهدة، كما أنها ستشكل موئلاً للوعي واللقاءات الاجتماعية في الإجازات والفعاليات الاجتماعية والوطنية، بل يمكنها أن تكون حاضنة اقتصادية ستفتح أبواب الرزق للراغبين بما يتسق مع التوجهات..

 

 

إننا نأمل من الجهات الحكومية النظر إلى (مشاريع الحارات التراثية) نظرة جادة، لما لها من الأهمية التي تنطوي عليها هذه النوعية من المشاريع، ويمكن للحكومة أن تتحمل جزءًا من الكلفة بالتشارك مع القطاع الخاص، الذي يأخذ ما يأخذ من دون مقابل تستفيد منه الحكومة بشكل مُباشر، ومن أجل السياحة النوعية التي ستترك أثراً لدى السائح الأجنبي، فضلاً عن أنها ستكون ذات فائدة ملموسة وحقيقية للسياحة الداخلية، من خلال المطاعم والمقاهي والمعارض الثابتة والمُتنقلة والمحلات ذات البضائع الاستهلاكية ومعارض وقاعات للحفلات والاجتماعات ومكتبات لنشر الوعي والمعرفة ومكاتب لممارسة الأعمال التجارية؛ نأمل إعادة النظر في ما نأمل ونتمنى ..

قبل أن اختم مقالي أتساءل أين وصل المقام بشركة "ثرات" التي أعلن عنها وأنها ستكون الذراع الحكومي في الاستثمار في كل ما هو قديم من القلاع والحصون والحارات القديمة.