تنمية الإنسان

 

د. صالح الفهدي

 

هل نجحنا في تنمية الإنسان؟! أو بمعنىّ مقارب: هل نحنُ ماضون في الطريقِ الصحيحِ لتنمية الإنسان؟ سؤال على كلِّ دولةٍ أن تسألهُ في كلِّ فترةٍ كما تجري المسح السكاني كلّ عقدٍ من الزّمان..! ذلك لأنَّ نجاح كل دولةٍ بنجاحها في تنمية الإنسان تنميةً حقيقيةً.. أقولُ حقيقية لأن هناك تنميةً في المقابل "غير حقيقية" وأضربُ بها مثالاً: التدريب غير الممنهج وغير المُفصّلcustomized  الذي تقوم به جهاتٌ حكومية كثيرة غايته الطاغية استنفاد الموازنة المخصصة للتدريب، وتحقيق رقمٍ ما في مجال التدريب، وفي المقابل تحقيق رغبات البعض في السفرِ إلى الخارج للتمتعِ بإجازةِ مدفوعةِ المصاريفِ والعلاوات..! أمّا الفائدة الحقيقة فقلّما يكترثُ بها أحد، لأنه لا يوجد تقييم لعائد التدريب، كما أن الأنظمة العملية جامدة لا تتيح المجال للتغيير ..!

قبل  السؤالِ تأتي النيّة: هل نسعى فعلاً لتنمية الإنسان؟ ثم تأتي الخطة المبنيّة على أُسسٍ واضحةِ المعالمِ والخطواتِ والغايات، بعد ذلك تأتي الإرادة التي تشكّل القوّة الدافعة للتنفيذ على الواقع، ثم تأتي المتابعات والتقييمات والمراجعات، وتأخذ العملية مسار الدائرة لتبدأ من جديد، مصحوبةً بالتحديث الأفضل في كلِّ طورٍ من أطوارِ البدء.

وإذا كانت الدول تعوّل على الإنسانِ في نهضتها، ووضعها الحضاري، وتقدّمها، بل وإعادة إنتاجِ ثقافاتها، وتجديد هُوياتها فإن عليها أن تولي اهتماماً عظيماً بتنمية الإنسانِ تنمية أصيلة، فالصروحُ المادية الباذخة لم تكن في يومٍ من الأيام دليلاً على الاهتمامِ بالإنسانِ، ولا شاهداً على الحضارة التي تعني في مفهومها الإنساني العميق "الحضارة كل حضور يحرّك الواقع نحو معياره، بكل تحيّزاته، وأنساقه المعرفية، كما يحرّك المعيار ليؤصل التزام الواقع به"[1] ولا يمكنُ لهذا الحضور الذي "يحرّك الواقع" أن يتم إلاّ بالإنسانِ الواعي، المدرك لأبعاد التحريك، وضروراته، وأهدافه. وهنا يفرّق الفيلسوف مالك بن نبي رحمه الله بين "الحضور" و"التواجد" وهذا التفريق أمرٌ مهم على كل أمّةٍ أن تعلمه جيّداً، فتواجد الأمة في نظرهِ يعني أنها مكتفية بذاتها، منغلقة على نفسها، أو مفعولاً بها، غير مؤثرةٍ فيما حولها، ولكنها لن تكون "حاضرة" إلاّ إذا خرجت من حيّز "الوجود" إلى حيّز "الحضور" وما يعنيه ذلك من الشهود والوعي والتأثير، وطرح رؤية للعالم، وتجاوز الذات، ومحاولة الإسهام بـ "فاعلية" في "تحريك الحياة" فالحضور مشاركة وتأثير وفاعلية، وليس انفعالاً وتلقِّياً، أو تكراراً، واجتراراً، أو انغلاقاً، وتقوقعاً"[2]. أهمية هذا الكلامِ تنطوي في ضرورة التفرقةِ بين "الحضور" و"التواجد" وهذا أمرٌ مفصليٌ على كلِّ أمّةٍ أن تدركهُ جيداً، وتحدّد موقفها منه كي لا يلتبس عليها الأمرَ فتظن أنها في موقع "الحضور" وهي في الحقيقة في موقع "التواجد"..!

وفي الواقع لا يمكن أن تنهض مدرسةٌ دون معلّمٍ لبيبٍ حذقٍ يستطيع أن يحرّك عملية التعليم فيها مع توافر الإمكانيات المتاحة الأخرى، ولا يمكنُ أن تقومَ وزارةٌ من الوزارات دون أن يكون على رأسها وزيرٌ يمتلكُ القدرات القيادية اللازمة لتحريكها نحو فاعلية التأثير الذي يقتضيه "الحضور"، ولا يمكنُ أن تنشأ أُسرة تشكّل نواةً سليمة لمجتمعٍ قويم دون أن يكونُ على رأسها أبٌ وأم مؤهلانِ لإدارتها بصورة ذات منهجية واعية بأسس التنشئة السليمة، ولا يمكنُ أن يقوم مستشفى دون أطبّاء أكفاء يتمتعون بقدراتٍ متميزةٍ في معالجة المرضى.

القضيّة إذن في تنمية الإنسانِ ليست بناءُ مدرسةٍ أو جامعةٍ أو كليةٍ أو وزارةٍ أو مؤسسةٍ أو مستشفى، بل القضيةُ هي: هل الإنسان الذي وضع "لتحريك الحضور" في هذه المؤسسات يتمتّع بالكفاءات اللازمة ليقود زمام الحراك نحو "الحضارة"..؟!

إن تنمية الإنسان تعني تفعيل القوى الذاتية للإنسان بالتفكيرِ والتدبّر وهذا يتطلب دفعه لشحذ تفكيرهِ، وإشغال عقلهِ، ومواجهةِ الواقع بكل ألوانهِ، وتمايزاته. وهو الأمر الذي ابتكرته الدول المتقدمة في مجال التعليم ومنها سنغافورة التي تصدرت أفضل الأنظمة التعليمية في العالم خلال تقييم (برنامج تقييم الطلاب الدولي PISA) لعامي 2015/2016، إذ كانت إحدى المبادرات التي أنتجت التفوق على المستوى الدولي مبادرة "تعليم أقل، تعلّم أكثر" وهو ما يعني تقليص دور المعلم، وتنمية دور الطالب وذلك بمنحه مساحة أكبر لإِعْمَال عقله: بحثاً واستقصاءً واستنباطاً ونقداً وتحليلاً.

تنمية الإنسان تعني أن يكون قويم الشخصية، راسخ المبادئ، متزن الفكر، قادر على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، يستطيع تحديد الاتجاهات المُثلى التي تحقق له أفضل النتائج، لا تستفزّه المواقف، إذ يسيطرُ على ذاتهِ، وعواطفهِ، وانفعالاته، وأهوائه.

تنمية الإنسان تعني صناعة إنسانٍ مؤثرٍ في صياغة الأحداث لا مؤثرٌ عليه، مغلوبٌ على أمره، مقادٌ حيثما يريدُ الآخر، تابعٌ إلى حيثُ تقتضي رغبات ووجهات قوى أخرى. إنسانٌ يمتلك الجرأةَ في أن يغيّر مجرى الحدثِ بما يمتلكه من معرفةٍ وثقةٍ ذاتية وخبرةٍ في مجالِ الحياة.

تنمية الإنسان تعني أن يكون الإنسان منفتحاً على الثقافات، قادراً على التعاطي بإيجابيةٍ معها، والإفادةِ منها، لا متقوقعاً في أفكاره، منغلقاً في نطاقهِ الفكري، منطوياً على مسلّماتهِ وقناعاته. 

تنمية الإنسان تعني أن يمتلك مهارات تفيدهُ في واقعه، لا نظريات وفرضيات يردّدها ليلَ نهارٍ من أجلِ أن يفرغها في ورقةِ امتحانٍ؛ مهارات تنفعه لأجل صنع أساس حياته القادمة، وبناءِ طموحاته، وتفعيل أفكاره في ميادين الواقع بما تحملهُ من تحديات وصعوبات. يقول تشي جيفارا "قيمة الإنسان فيما يضيفه للحياةِ من أفعالٍ لا أقوال".

تنمية الإنسان تعني توجيه الإنسان نحو المستقبل، وتفكيره في الطرق التي تؤدي به نحو تغيير النمط الذي يعيشه، لا أن يركنَ إلى ماضيه، ويستنفر قواهُ في الإجترارِ، والتكرارِ فلا يحرّك ساكناً وإنما يعود بنفسه القهقرى، الأمر الذي يصيبُ الأمّة بالجمودِ، ويعطّلها بالخمود..!

تنمية الإنسان تعني تحفيز الإنسان ليكون مبدعاً أصيلاً لا مقلّداً تابعاً، مبدعاً يعتمدُ على عقلهِ، وجهده، وعزيمته ليقود ذلك إلى الابتكار المتجدد، فما ضيّع البشر والأمم سوى التقليد، وما التقليدُ في أصلهِ إلا تبعية المغلوب للغالب والانبهار به بحسب تعبير ابن خلدون..!

تنمية الإنسان تعني أن يكون إيجابياً في تفكيره، لا سلبياً سوداوياً في نظرته نحو البشر، والكون والطبيعة وكل شيء. الإيجابي وحده الذي يستطيع أن يرى الضوءَ آخر النفق، والفجر في الدجن، والأمل في تراكم المحن. أما السلبي فهو الوبالُ على أمّته، القاتلُ لآمالها وطموحاتها، الوائدُ لأحلامها وتطلعاتها، المعيقُ لطاقاتها وكفاءاتها.

تنمية الإنسان تعني اضطلاعه بالتفكير في القضايا الكبيرة ذات الارتباط بالتطوير والتقدم والتحديث وترك توافه الأمور التي تقلّل من شأنهِ، وتحجّم من قدراته، وتعطّل من كفاءاته، وتأخر من أوقاته.

تنمية الإنسان في ترسيخ القناعة العظمى لديه بأنه لا يوجد ما يسمى فشلاً لمن يمتلك الروح الوقادة للمحاولة والعزيمة المتوثبة للتقدم، وإنما تلك تجربة يجب التعلم منها. أما الفاشل فهو الذي يعيدُ نفسه كلّما تعثر، ويدفن نفسه في كل حفرةٍ يقعُ فيها..! يقول مايكل جوردان"لقد فشلت مرات عديدة ولذلك أنجحُ الآن"

وليس عصيّاً علينا أن نقيس ما إذا كنّا في الطريقِ الصحيح لتنمية الإنسان أم أننا نواجه إخفاقات واختلالات في هذه الغاية الأولى لكلِّ أمة. وأداةُ ذلك عندي هي الواقع ليس سواه، فليس من برهانٍ أعظم من الواقع فهو الذي يدلِّل على نجاحِ أو فشل كل فكرة أو ادعاء.

لنقيّم أداءنا التعليمي من خلال مخرجاته ومدى قدرتها على مواجهة الواقع، والابتكار، والإبداع، وصنع القرار، والقدرة على التأقلم في ميادين العمل لا من خلال الحقائب الطافحة بالكتب، والساعات الطويلة للتعليم، وعدد صروح مؤسسات التعليم، أو رونق البناء.

ولنقيّم أداءنا الاقتصادي لا من خلال المصانع والمناطق الصناعية والمشاريع بل من خلال نسبة الإسهام في الناتج الوطني، والقدرة عل استقطاب الاستثمار، وتشجيع المؤسسات في مختلف مستويات على الأداء والفاعلية بتسهيل وتيسير الإجراءات الخاصة بالمصالح المرتبطة بها، ومن خلال مستويات البطالة.

ولنقيّم وضعنا الاجتماعي لا من خلال الوزارات القائمةِ، ولا المرافق الخدمية بل من خلال مستوى المعيشةِ، ومعدّل الجرائم والجنح، والاستقرار الأسري، والتربية السليمة.

ولنقيّم وضعنا الشوروي ليس على صعيدِ أعداد المترشحين والمرشحين بل في النضج المجتمعي لمفهوم الشورى، ومعايير الترشّح، وقدرة المجالس الشورية في إحداث التأثير على صناعة التشريعات الوطنية والقرارات المصيرية.

ولنقيّم وضعنا الأدبي والفني ليس بعدد الفعاليات والمناشط بل بالأثر الذي تخلّفه في الناس من رقي في الذائقة، وسموِّ في الأدب، ورقة في الأحاسيس، وتهذيب في الأسلوبِ واللغة والحوار.

ولنقيّم أداءنا الإعلامي ليس على مستوى المؤسسات والوسائل الإعلامية وإنّما على مستوى التأثير الإيجابي في تعديل السلوك، وخدمة الهوية الوطنية، ومعالجة قضايا الوطن، ومدى المساحة الممنوحة للتعاطي الإعلامي للقضايا ذات الأهمية القصوى للمجتمع.

ولنقيّم منهجنا الديني ليس بالخطبِ ولا الندوات أو المؤتمرات وإنّما في تأثير ذلك المنهج أو الخطاب على واقع الناس؛ الواقع الممتد من إماطة الأذى إلى الارتقاءِ بالمعاملة والأخلاقيات.

لنقيّم كل جانبٍ من جوانبِ حياتنا تقييما عملياً لا يتقصّد الأرقام وإنما المحتوى وفاعلية هذا المحتوى في حياةِ النّاسِ، حينها سنستطيعُ بكل موضوعيةٍ أن نجيب على السؤال الذي طرحناه: هل نجحنا في تنمية الإنسان؟! ونعرف ما هو وضعنا في سلّم "ماسلو" للحاجات الإنسانية..!

 

 

 

 

 

  

   

 

[1] - قيم الإسلام الحضارية: نحو قيم إنسانية جديدة، د. محمد عبدالفتاح الخطيب، كتاب الأمة، قطر 1431هـ

[2] - مشكلة الثقافة، مالك بن نبي، ترجمة عبدالصبور شاهين. 1984م ص21 وما بعدها.

الأكثر قراءة