حمود الطوقي
76 وظيفة يتنافس عليها أكثر من 40 ألف عُماني باحث عن عمل حكومي.. هذا ما يتَّضح من خلال التدفق الذي شهده إعلان الوظائف الذي قدَّمته وزارة الخدمة المدنية.. عددٌ هائلٌ من الخرِّيجين والخريجات من الكليات والجامعات في الداخل والخارج، تسابقوا من أجل الفوز بفرصة وظيفية من بين 76، ولكن ما لم يكن في الحسبان هو العدد المخيف للماكثين في الظل يبحثون عن وظيفة، حتى تجلَّت الصورة، وهو تكدُّس ضخم للمُخْرَجات العُمانية من مُختلف المستويات الدراسية.
هذا مُدهش حقًّا؛ فالأعداد في تزايد، بينما الفرص الوظيفية محدودة، مقارنة بالأعداد غير المتوقعة التي أقبلت بلهفة على إجراءات التسجيل الإلكترونية؛ ولكن لماذا نقول مُدْهِش؟ لأن هذا العدد المستكنّ في الظل والصمت يفتح علامات استفهام كثيرة حول ما الذي كانت تصنعه المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص المعنية بإيجاد مساحة للعُماني والعُمانية كي يُسهم الجميع في خدمة الوطن، مُستفيدين من الاستثمار الضخم عبر سنوات من أجل لحظة التوظف والإنتاج.
على الرغم من وجود جامعات، حكومية وأهلية، وعلى الرغم من وجود كليات تقنية، وعلى الرغم من وجود كليات تخصصية فنية وهندسية وطبية، إلا أن التخصصات -على ما يبدو من واقع اللحاق بركب التوظف- تغرِّد خارج السرب؛ فاحتياجات سوق العمل في ناحية، والاختصاصات في ناحية أخرى، والقبول بالوظيفة يتم على مبدأ "شيّ أحسن من لا شيّ"، وهو المبدأ الذي لم يستطع أن يرقع الرتق في الثوب التوظيفي، على الرغم من وجود القطاع الخاص بقنواته واختصاصاته وتعدد نشاطاته، وسقفه المالي؛ لماذا كل ذلك؟
إذا ألقينا نظرة على واقع البديل (القطاع الخاص)، فإن الثقة بين هذا القطاع والمخرجات الدراسية الأكاديمية شبه معدومة، والسبب هو "سقف الرواتب"، والاهتمام بتعمين جزئية "الوظائف الدنيا" على حساب التدريب والاهتمام بإيلاء ثقة ومسؤولية لـ"الوظائف القيادية"؛ لذلك فإنَّ الثقة في الخريج العماني قليلة، لذا فإن القوى العاملة غير العمانية، ذات الأسعار (المقدور عليها)، وبناء سلطة العمل بطريقة (اتكالية)، كل هذا ساعد على نشوء ثقافة توظيف لا تنصف مخرجات التعليم الأكاديمي العماني، ولا تأخذ بيده نحو المنافسة والاختلاف.
خرج هذا العدد -الذي لا يزال يثق في "جدوى الوظيفة الحكومية"- وهو مستعد لملاحقة فرصته، والتنافس مع الأقران، والنزوع نحو الانتظار إن كان فيه فائدة لصالح انضوائه تحت لواء "وظيفة حكومية"، على حساب وظيفة القطاع الخاص.
الرقم مُحيِّر، فلم يتحدَّث عن هذه الأرقام في وسائل الإعلام أي مسؤول، ولم يناقش مجلس الشورى هذا الحدث الجلل، ولم يخطر في البال هذا الكم المتكدس والمنتظر؛ لأنَّنا ليس لدينا مراكز أبحاث مستقلة، تقوم بحصر الأعداد بعد الثانوية العامة، وبعد مراحل التخرج من الجامعات والكليات والبعثات، ولم يقم أحد بإحصاء وتحليل البيانات بشكل شفاف، للبحث عن حلول تستفيد من طاقات (الباحثين عن عمل حكومي)، بعد أن اتسعت الفجوة وتراجعت الثقة في القطاع البديل.
وأتساءل هنا: ما المطلوب إذن؟
لا بد من إعادة النظر في العديد من السياسات؛ ومنها سياسات التعليم بمعناها الربحي الذي لا يفيد البيئة الإنتاجية؛ وضرورة التعاطي مع الإحصاءات والأرقام بطريقة منتظمة ودقيقة، وتحليل مُعطياتها ونتائجها وواقعها وأفقها المستقبلي لتفادي تأخُّر الفائدة الاستثمارية للحكومة في مجال التعليم الداخلي والبعثات؛ كما يتوجَّب التفكيرُ في الطاقات العلمية الخريجة واستثمار إمكاناتها في منافع أخرى غير الوظيفة الحكومية، بطريقة يسهل فيها توجيه إمكانات الأجيال العمانية، وإلا ستتكدس المخرجات الجديدة المقبلة، وسيكون محلها في ظل الانتظار، ريثما تشع شمس الفرص، لتخرج إلى الواقع، مثلما هو حاصل الآن.
ويبقى في ختام هذا المقال أنْ نُعوِّل على القطاع الخاص الذي من المفترض أن يحمل معول البناء لجذب هؤلاء الخريجين والخريجات نحو توفير بيئة وظيفية آمنة لهم؛ فلا يُمكن القبول بأنَّ نسبة التعمين في هذا القطاع لم تصل إلى 15% على مدار 46 عاما.. فعلا مُعادلة صعبة ومدهشة.