عبيدلي العبيدلي
صبرا وشاتيلا.. وقبلها تل الزعتر.. وسبقتها برج البراجنة وتتقدمهم جميعًا كفر قاسم ... واليوم حلب ... مُخيمات ومدن عربية ارتبطت أسماؤها في ذهن المواطن العربي بالمجازر التي ارتكبت بحقها فدمرتها بعد أن أمعنت تقتيلا في أهلها، وشردت من بقي منهم من ديارهم. لكل منها ظروفه الخاصة به، سواء من حيث الأهداف التي وقفت وراء إقدام الجناة على اقترافها، أو من حيث تستر الجهات التي خططت لها، والأيدي الملوثة التي نفذتها. لكنها أيضاً تتقاسم صفحات من تاريخ العرب المعاصر التي يمكن أن نعتبرها محطات مفصلية، بوسعنا، متى ما حاولنا قراءتها بشكل ديناميكي، جدلي يقوم على الفهم العلمي لأحداثها، أن نستخلص منها الكثير من العِبر والدروس التي تحول دون تكرارها، بعد أن تمنع فعل أسبابها.
اليوم، بعيدًا عن الوقوف مشدوهين سلبًا بما جرى ويجري في حلب، ينبغي أن نسارع إلى قراءة ما جرى على أراضيها قبل فوات الأوان للحيلولة دون تكرار ما عرفته هي في مدن أخرى مرشحة للمشهد ذاته. هناك الكثير من الاستنتاجات والدروس التي يمكن أن نستقيها من سقوط حلب على أيدي قوات التحالف الروسي – الإيراني – نظام الأسد الذي تقف وراءه، وإن لم يكن بشكل معلن، ليست بعيدة عن المؤسسة الصهيونية العالمية.
ويمكن رصد تلك الدروس والاستنتاجات في النقاط التالية:
- أن المشاريع الاستعمارية التي تقودها دول عظمى من مستوى روسيا والولايات المتحدة، تعود مرة أخرى للنمط التقليدي للاستعمار القائم على التدخل العسكري المباشر المستعين بعملاء محليين. هذا ما جرى في الشيشان، وما تقوم به القوات الروسية منذ أشهر في حلب. لم يعد في وسع الدول الكبرى، أن تكتفي بالطرق الاستعمارية الناعمة التي تحصر نفسها في نهب ثروات البلدان التي تنسج علاقات معها. ولم يعد كافياً الاعتماد على المؤسسات الدولية من أمثال صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي لإحكام سيطرة تلك الدول الكبرى على مقدرات الدول الصغيرة. بات التدخل العسكري المباشر سمة من سمات التوسع الاستعماري المعاصر. ومن ثم فعلى الشعوب وحركات التحرير أن تعود هي الأخرى، مضطرة، إلى حمل السلاح، لأنها اللغة الوحيدة التي يمكن التخاطب بها.
- أن الفريق المحلي سينعم فترة قصيرة، بالمعيار التاريخي لرصد الأحداث، قبل أن يكتشف تضارب مصالحه مع مصالح القوى الأجنبية، بمن فيها تلك الإقليمية، التي استعان بها لتحقيق التفوق المحلي على منافسيه، وهي لن تتردد في الانقلاب عليه ونسج تحالفات مختلفة عن تلك التي سادت خلال معارك التمهيد للاحتلال. ولعل فيما تقوم به المليشيات الإيرانية التي انتشرت في ربوع الدليل الواضح في التضارب في المصالح والأهداف بين من هو أجنبي ومن هو وطني. ومن ثم لابد من التهيؤ لقراءة جديدة لمصير حلب، ومن ورائها الساحة السورية في ضوء النتائج التي أسفرت عنها معارك حلب الأخيرة، والتي قد تتجاوز الحدود السورية كي تحط رحالها في الموصل قبل أن تصل إلى صنعاء.
- أن الطرف المنهزم، مطالب هو الآخر بأن يعيد قراءة سلوكه الذي قاد إلى اندحاره. هذه القراءة، إن أريد لها أن تكون ذات جدوى، عليها أن تتخلى عن النرجسية التي سادت القراءات العربية للمجازر السابقة، وتتحلى بدرجة عالية من الموضوعية التي تؤهلها لتحاشي أخطاء مستقبلية مشابهة كانت وراء سقوط حلب. هذه القراءة، كي تحقق الفوائد المرجوة منها مطالبة بأن تعالج الحول العربي الذي يرى الأمور بعيداً عن حيثياتها التي أفرزتها والعوامل التي رافقتها. فسقوط حلب المدينة هو سقوط مشروع عربي، إن جاز لنا القول، حمل جنين فشله في أحشائه لحظة تكونه. فالتشوهات البنيوية التي رافقت عملية الحمل لم يكن لها أن تضع طفلاً سليما قادرا على مواجهة المشروعات الأخرى المضادة التي نجحت في وأد ذلك المشروع وهو في رحم أمه.
- أن العدو الصهيوني، هو الوحيد من بين جميع الأطراف الشرق أوسطية الذي لم يدخل بشكل مباشر في معارك الحروب الدائرة في المنطقة منذ ما يزيد على خمسة أعوام، واكتفى بدور المراقب المتيقظ المستعد لقطف ثمار الاقتتال الدائر فيها من بين أيدي، حتى المنتصرين المثقلين بأعباء تلك المعارك. وضع تل أبيب اليوم مشابه تمامًا لوضعية واشنطن في الحرب العالمية الثانية التي وقفت تتفرج ولم تتدخل إلا في المراحل الأخيرة من تلك الحرب، فجيرت مكاسبها لصلحها، ونجحت في فرض سيطرتها، حتى على الدول الأوروبية المنتصرة، وفي مقدمتها بريطانيا.
- أن تحالفات جديدة ستطل بوجهها على ساحة المنطقة العربية، ومن الطبيعي، في حال غياب مشروع عربي متكامل قابل للتنفيذ، أن تواصل البلدان العربية، دون أي استثناء تواصل سيرها في دبر المشروعات التي تضعها القوى الدولية أو تلك التي ترسم معالمها القوى الإقليمية. هذا المشروع العربي إن أريد له النجاح، عليه أن يتخلص بشكل جاد ومخلص من كل العيوب التي قاست منها مشروعات عربية سابقة، مصدرها مزيج كريه من العصبيات القبلية، والنزاعات الطائفية، والتناحرات الفئوية.
- أن السيولة النقدية، ولا نقول الاقتصاد الراسخ المعالم القوي البنيان، رغم أهميتها وضرورتها لأي مشروع عربي، لكنها ليست العامل الوحيد الذي يحقق له مقومات النجاح، بعد مناطحة المشروعات الأخرى. ومن ثم فأي مشروع يسعى لانتشال العرب من أزمتهم التي يعيشونها، لا بد أن يقوم على اقتصاد متين، يكون عاملاً من عوامل نجاح المشروع العربي الذي يفترض أن يجري العمل من أجل تحديد معالمه الرئيسة بشكل واضح وجلي قبل الشروع في تنفيذه.
سقطت حلب، وفرح الأعداء لكن لا ينبغي أن تكون حلب، رغم أهميتها الإستراتيجية، أقرب إلى قلوبنا من مدن عربية أخرى سقطت، وأخرى يتربص بها السقوط، وإن أردنا انتشال حلب من كبوتها، والحيلولة دون أن تكون هناك أكثر من حلب،علينا أن نقرأ مشهدها بشكل علمي، ونضع المشروع العربي على أساس متين من النية الصادقة.