عبيدلي العبيدلي
بعيدا عن التحليلات التلقائية السريعة التي تناولت الأسباب والدوافع التي وقفت وراء سقوط حلب في يد التحالف الثلاثي الروسي – الإيراني - الأسد، والتي تراوحت بين التركيز على الطموحات الشخصيّة للرئيس الروسي بوتين، والتشديد على تصريحات الرئيس الأمريكي ترامب، التي تحاول أن تعيد عقارب الساعة نحو الوراء فيما يتعلق بالعقوبات المفروضة على طهران؛ بعيدا عن كل ذلك لا بد من الاعتراف بأنّ سقوط حلب في يد ذلك التحالف يعكس تغييرًا نوعيًا في مسار الأزمة السورية، ويعبّر عن التحوّل الكيفي في موازين القوى المتصارعة فوق ساحتها. وفوق هذا وذاك لا شك أنّ فيما جاءت به تلك التحليلات يحمل شيئا من الحقيقة، لكنّه يخفي الأكثر أهميّة بينها، وهو تشخيص المستفيد الأكبر من بين جميع تلك القوى المتصارعة.
مما لا شك فيه أنّ هناك مستفيدين كثر من هذا التحول في موازين القوى، لكن يتصدّرهم جميعًا واحد؛ هو نظام الحكم في طهران. فهو من حاز على نصيب الأسد من نتائج تلك المعارك.
أول من أدرك ذلك، بالنسبة للحصة الإيرانية كان الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، الذي، كما جاء في مقال مساعد رئيس تحرير صحيفة ذي غارديان البريطانية سايمون تيسدال المعنون "ما الذي ينتظر سوريا وحلفاءها وأعداءها بعد سقوط حلب؟". يشير تيسدال في ذلك المقال إلى أن الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب "سيعمل على تحسين علاقات بلاده مع روسيا وقبول وضعها في سوريا وتناسي الخلافات معها بشأن أوكرانيا، وفي مقابل ذلك سيطالبها بالابتعاد عن إيران ودعم جهود محاربة تنظيم الدولة وكبح جماح طموحات إيران الطائفية في سوريا والعراق".
وينوّه تيسدال في ذلك المقال إلى التباين في المصالح المباشرة بين طهران وموسكو، ويرسم إطار الفائدة الإيرانية والمشروع المرتبط بها، قائلا " إنّ تحالف المصالح الذي يربط روسيا بإيران سرعان ما قد يتحوّل إلى إشكالية. فالمليشيات الشيعية المدعومة إيرانيا والقادمة من لبنان والعراق وأفغانستان خاضت معظم المعارك على الأرض في حلب. ويتجدد الحديث عن (هلال شيعي) إيراني يمتد من أفغانستان عبر العراق واليمن إلى البحر الأبيض المتوسط. وعلى عكس موسكو، فإنّ طهران ترى نجاحاتها بمنظار طائفي."
وتؤكد الغارديان في مقال آخر على الفوائد الاستراتيجية التي ستجنيها طهران من هذا التغيير في موازين القوى، قائلة "إنّ إيران على وشك إكمال مشروعها الاستراتيجي بتأمين ممر بري يخترق العراق في نقطة الحدود بين البلدين، ثمّ شمال شرق سوريا إلى حلب وحمص وينتهي بميناء اللاذقية على البحر المتوسط، (مضيفة)، ورغم التحالف الروسي – الإيراني وخاصة في الملف السوري، والذي أنقذ نظام الأسد من السقوط حتى اليوم، فإن ما يجري على الأرض يبين أنّ من يصارع موسكو على مناطق النفوذ اليوم هي طهران ذات الأهداف الأيديولوجية".
يحذّر من تلك الاستفادة الإيرانية ومخاطرها على أي مشروع عربي يسعى إلى انتشال سوريا من أزمتها، مقال نشرته صحيفة اليوم السعودية رأت فيه "أنّ الأخطر في الأمر في حلب لن يتوقف عند إغلاق صفحة التأثير الغربي في مجريات الأمور، وإنما سيمتد إلى ما هو أبعد، وهو العبث الإيراني بديموغرافية المدينة، وهو ما أعلنه جنرالات الحرب الإيرانيون بلا مبالاة، مما سيقود إلى نوع من حرب العصابات التي ستستدعي كل ألوان الفوضى أكثر مما هو حاصل بالفعل، لتتشابك العقد أكثر فأكثر".
في السياق ذاته ينوّه الكاتب جلال بكور مسلطا الضوء على ذلك الخلاف بين المشروعين الإيراني والروسي، مؤكدا على أن "هناك صراع نفوذ بين روسيا وإيران في سوريا، كما أنّ روسيا دولة عظمى وإيران دولة تملك قوة صاعدة ولابد من حدوث صدامات بين القوتين الآن أو مستقبلاً في سوريا، لكن المؤكد أن النفوذ الإيراني في سوريا أكبر من نفوذ الأسد".
هذا يفسر الغزل المبطن الذي بدأت تفوح رائحته بين موسكو وتل أبيب، ونوّه له أستاذ للدراسات الشرق أوسطية في جامعة تل أبيب -في مقال تحليلي على صحيفة "إسرائيل اليوم" آيال زيسر "مع أن الحضور الروسي المكثف خلال تلك الحرب لم يسكت الهجمات الإسرائيلية، وهو أمر تأخذه تل أبيب بعين الاعتبار، ولذلك استخدمت خلال هجومها الأخير الصواريخ وليس الطائرات، كما حصل في هجمات سابقة، رغبة منها بعدم حصول احتكاك مع الروس الذين تحولوا ليصبحوا أصحاب البيت الحقيقيين في سوريا".
كل ذلك يعني صعود العنصر الإقليمي على حساب العامل الدولي في موازين قوى الصراع على الساحة السورية. وهذا، بدوره، يضع العرب، إن جاز لنا القول، أمام تحد تاريخي فيما يتعلق بمستقبل الصراع على سوريا. وإنهم، أي العرب، إن أرادوا أن تكون لهم كلمة في مستقبل سوريا، فربما آن الأوان كي يتحركوا في اتجاهين: إقليمي، ودولي.
فعلى المستوى الإقليمي هم مطالبون بأن يضعوا رؤية تقوم على استراتيجية منطقية، قادرة على نسج تحالفات إقليمية قادرة على لجم التمدد الإيراني. ليس المقصود هنا الدخول في معارك مع طهران، بقدر ما هو تحجيم ذلك التمدد، من أجل الوصول إلى صيغة عادلة تضمن الربح المشترك للطرفين: الإيراني والعربي. فمثل هذه الصيغة، من شأنها، إذا ما أحسن بناؤها أن تقطع الطريق على المشروعات الصهيونية تجاه المنطقة من جانب، وينظم معادلة العلاقة المتكافئة مع إيران من جانب آخر.
أمّا على المستوى الدولي، فعلى المشروع العربي أن يفتح عينيه كي يرى التحولات التي تعم ساحة العلاقات الدولية، فلا يضع بيضه في سلة واحدة تملك زمام الأمور فيها العواصم الغربية، وفي مقدمتها واشنطن.
وفي حال غياب هذا المشروع العربي الاستراتيجي، من الخطأ توقع تغيرات في المشروعات غير العربية التي يروج لها في سوق إعادة رسم خارطة الشرق الأوسط، بما فيها المشروع الإيراني.