من أجل مشروع عربي متكامل

 

 

عبيدلي العبيدلي

تتجاذب عواطف وقراءات المواطن العربي تجاه المشهد السياسي العربي، وعلى وجه الخصوص ذلك المشهد الذي يصف الساحات الملتهبة من البلاد العربية، اتجاهات متضاربة تصل إلى مستوى التناقض، وتثير في نفسه مجموعة من علامات التعجب، إن لم نقل الارتباك عند سعيه لتحديد موقف من القوى المتصارعة فوقها، دع عنك قدرته على الوصول إلى تحليل علمي منطقي يفسرها ويشرح أسبابها ودواعيها، تكاد ان ترغمه على القبول بعبثية الصراعات المحتدمة، المسلح منها وغير العنيف، ومن ثم، عبثية أهدافها، بغض النظر عن التبريرات التي يسوقها هذا الطرف أو ذاك عند محاولته تعليل مشاركته فيها.

هذه الحالة العربية غير المسبوقة في تاريخ العرب المعاصر، تفرضها على استنتاجات ذلك المواطن العربي وتتحكم في ذهنيته، مجموعة من الأبعاد التي غرست نفسها عميقا في تفكيره يمكن توصيف أبرزها في النقاط التالية:

•        البعد التاريخي، فتاريخ التطور السياسي للعالم العربي الممتد منذ أواخر الحرب العالمية الثانية يزخر بالحروب الداخلية التي فشلت نهاياتها، بل وحتى نتائجها أن تسوق مبررات منطقية تقنع المواطن العربي على القبول بها، دع عنك المشاركة فيها. وأقرب مثال قوي على صحة هذه المقولة الحرب - التي يصعب توصيفها – اللبنانية، التي تأرجحت بين التصعيد حتى شمل الاقتتال معظم أراضيها، ثم الحوارات التي لم تستثن أيا من قواها السياسية، بما فيها تلك الهامشية، لكنها حتى يومنا هذه لم تصل إلى طريق نهايتها. تكفي الإشارة إلى أن لبنان ظل بلدا بدون رئيس لما يقارب من السنوات الخمس، قبل أن يؤتي برئيس أوصلته إلى سدة الحكم معادلات ترفع علامات استفهام كبيرة حول دوره الفعلي في إدارة شؤون الدولة سياسيا واقتصاديا على نحو استراتيجي، وليس تسييرها إداريا بشكل تكتيكي.

•        البعد السياسي، فبعد أن كان المشروع العرب يقوم على ركائز قومية، تحولت أركانه إلى مشروعات تقسيمية تجاوزت فسيفسائها الطائفة الواحدة كي تحط عن مقاييس وقيم تحصر نفسها في فئات قزمة في إطار الطائفة ذاتها. وتطاحنت الحكومات العربية الواحدة منها ضد الأخرى، او الفريق المكون من مجموعة دول عربية ضد فريق عربي آخر، في حروب هي الأخرى تكاد أن تصل إلى المستوى العبثي، عندما تقاس أهداف ومبررات الحروب بالمقاييس المتعارف عليها. ونظرة سريعة إلى خارطة التحالفات العربية في ساحتين فقط، هما السورية والعراقية، تكفي لشرح مستوى التشظي العربي الذي بات يعاني منه الفرقاء العرب فوق مشهد الصراع في ذينك البلدين، وسيناريوهات نهايات كل منهما على حدة.

•        البعد الاقتصادي، فيحز في نفس المواطن العربي، ما يراه من تبذير لموارد الدخل العربية في معارك داخلية طاحنة بين الأشقاء العرب، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، في شكل دعم لهذا الفريق أو ذاك، من أجل تزويده بالسلاح، أو مساعدته على تسيير أمور من يقطن المناطق التي تقع تحت سيطرته. تفاقمت حدة النزيف الاقتصادي مع تراجع أسعار النفط التي فرضت تدهورا ملحوظا في موازنات الدول العربية التي لم يعد في وسعها التخلي عن التزاماتها تجاه تلك الحروب المشتعلة، فلم تجد امامها طريق نجاة سوى التقتير في مشروعات التنمية الداخلية، وكان المواطن، قبل أي أحد آخر، الضحية المباشرة لهذا التحول.

•        البعد السياسي، حيث قاد اشتعال الحروب، وامتداد ساحات معاركها، إلى استعانة المتحاربين، تحت ضغط متطلبات الاستمرار في المعارك، أو بفضل مشروعات خرائط إعادة تقسيم المنطقة العربية، إلى لجوء المتحاربين إلى البحث عن تحالفات إقليمية ودولية سافرة ومستفزة، جاءت على حساب أي مشروع عربي، حتى في أشكاله الواهية. فوجدنا تدخلا مباشرا من قوى إقليمية مثل تركيا وإيران بل وحتى إسرائيل، تنفذ مشروعاتها الإقليمية تحت الأغطية التي زودتها بها طلبات القوى العربية المتحاربة. تحول ساحات تلك الحروب إلى معارك بالوكالة تخوضها قوات عربية تحت أعلام أجنبية، ومن أجل مشروعات تلك الدول التي تحرص على وأد أي مشروع عربي وهو في المهد.

•        البعد الاجتماعي، حيث ساهمت تلك الحروب في تأجيج الاختلافات الاجتماعية، ليست تلك المنبثقة من جذور طبقية، أو حتى عرقية، بل تجاوزت كل تلك الحدود، كي تصل إلى إشعال نار الفتنة بين فئات مجتمعية تتقاسم المستوى الطبقي ذاته، لكنها تنحدر تاريخيا من أصول سكانية يفترض أنها ذابت وتلاشت بفضل استقرارها في ىهذا البلد العربي أو ذاك. لقد طفت على سطح المجتمع العربي، بفضل تلك الحروب، تقسيمات اجتماعية لا تمتلك من المقومات، إلا ذلك الدعم السياسي والاقتصادي الذي تتلقاه من قوى خارجية، إقليمية ودولية، لها مصلحة مباشرة في إنعاش هذه الفسيفساء العربية كي يتسنى لها الاختراق، وترويج مشروعاتها المتناقضة موضوعيا مع أي مشروع عربي.

هذه الصورة المحزنة،’ والمشوهة في آن تحث ذلك المراقب العربي لمشهده السياسي، أن يكف عن مجموعة من المسلكيات التي تتمحور حول: التأفف المستمر الذي يوقد ناره التذمر المتواصل، الجلوس على مقاعد المتفرجين، وكأن الأمر لا يعنيه، وتوجيه الانتقادات الفاقدة لموضوعيتها والمجردة من أهداف ملموسة تشكل نقطة جذب لمشروع عربي متكامل، الابتعاد بالمسافة المطلوبة عن الدعوة لنسج أي تحالفات مع قوى أجنبي، دولية كانت تلك القوى أم إقليمية، ما لم تكن تلك الدعوات قائمة على تحديد دور لتلك القوى لا يتناقض مع المشروع العربي المتكامل.

وتأسيا على كل ذلك سيجد المراقب للمشهد العربي أن الخروج من هذه الأزمنة الطاحنة، لا يمكن ان ينجح في غياب ذلك المشروع العربي المتكامل الذي لن يكون الحل السحري، لكنه الخطوة الصحيحة على الطريق السليم الذي بوسعه انتشال العرب من أزمتهم، وتحويلهم من دمى يتلاعب بها الأجنبي إلى قوة مؤثرة يحسب لها الحساب، وتكون رقما صعبا في أية معادلة شرق أوسطية محتملة.