عبيدلي العبيدلي
شأنها شأن الظواهر السياسية والمجتمعية الأخرى، تكمن وراء "الشعبوية" مجموعة من الأسباب تتفاعل ثم تنعكس في مجموعة موازية من المدلولات المتداخلة معها، كي تقود في نهاية الأمر إلى ظهورها وفرض نفسها على مسرح المشهد السياسي العالمي، وفي دول متقدمة مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة.
البعض، من أمثال محمد بنعزيز، يخضع تلك الأسباب والمدلولات لخلفيات فلسفية / نفسية، فنراه يضعها في إطار "مناهضة للعقلانية، (ومن ثم فهي في حقيقتها)، عجز عن بذل الجهد الفكري، هي السلبية والخمول والتأثر بالسطحي والعابر، هي الخضوع للرغبات والغرائز واعتبارها حقيقة مطلقة. الشعبوية هي الخوف من الحرية والنقد والاختلاف. الشعبوية هي نقيض الحرية، فالحرية صعبة لتمارس، وهي تتطلب مجهودا فكريا، مسافة مع اليومي، الشعبوية هي الاقتصار على التموقف من الدين الطائفي والهوية العرقية والأخلاقية الجنسية والعداء للآخر". ويخلص بناء على هذه المقدمة بأنه لو طبق "خطاطة أفلاطون في توصيف النفس البشرية على المشهد السياسي والإعلامي الحالي، نجد أن مركز الثقل قد نزل من النفس العاقلة إلى النفس الغضبية والشهوية فسيطرت الشعبوية على وسائل الاتصال في بداية القرن الواحد والعشرين".
لكن مقابل ذلك التحليل النفسي، هناك من أمثال الكاتب جورج خليل الذي يقف مطولا عند مظاهرها الأكثر شيوعا، فيرجعها إلى أخطاء الدوائر الحاكمة في المؤسسات الغربية، فنجده يقول "والحكّام، كالبشر تماماً، منهم من يقع في الأخطاء تحت الضغط، ومنهم من يبدع أكثر ويستنبط حلول خلاقة. في هذا السياق ارتكب مسؤولون وسياسيّون في مناصب رفيعة بارزة، سلسلة من الأخطاء مكّنت الشعبويين من تحقيق نقاط بارزة على مستوى العالم. ليس هذا وحسب، بل إنّ هذه الأخطاء نزلت مثل هديّة من السماء لصالح أشخاص لم يكن ليحلموا بتحقيق النجاحات التي وصلوا إليها".
وينهي خليل محاولته تشخيص تلك الأخطاء بحصرها في " ثلاثة أخطاء ارتكبت في ثلاثة بلدان وخلال أقلّ من سنة، برهنت أنّ السياسيين واجهوا الشعبويّة بإطلاق النار على أقدامهم. فطرح اقتراحات للاستفتاء، تحمل تداعيات كبيرة داخلياً وإقليمياً، ثمّ التهديد بالاستقالة في حال الرفض، تبيّن أنّه لم يكن استجابة منطقية لغضب الشعوب. ومع أنّ صمّ الآذان عن الشعبويين ليس دواء ناجعاً للمعالجة، إلّا أنّ تسليم مفاتيح الدولة ومقدّراتها السياسية والاقتصادية والأمنية لهم عند كلّ مفترق طرق سيرتدّ سلباً على الدولة. وعندها، يمكن للأوليغارشية أن تزيح الديموقراطية عن عرشها لمرّة واحدة، قد تكون نهائيّة."
مجلة " الديمقراطية" التي تصدر عن مؤسسة الأهرام المصرية أوردت في عددها الأخير "62" تغطية معمقة للمسألة حاولت فيها أن تكشف عن جذور تلك الأسباب والمدلولات، فقالت "أن تنامى ظاهرة الشعبوية فى العقدين الأخيرين، جاء كرد فعل لقصور الديمقراطية النخبوية، وأزمة الديمقراطية التمثيلية، التي اختزلت الإرادة الشعبية في مواسم الانتخابات، سواء في الديمقراطيات المستقرة، أو تلك التي لا تزال تحبو على الطريق. كما يربط البعض هذا الصعود بتداعيات الأزمة المالية العالمية، والتي شكلت بيئة خصبة للإقبال على خطاب يستلهم صوت المهمشين، أو يطرح حلولا للخروج من خناق الأزمة".
موقع "السقيلبية" الإلكتروني (http://www.alskilbieh.com/modules.php?name=Forums&file=viewtopic&t=2376 ) ينطلق في تشخيصه لتلك الأسباب والمدلولات من خلفية مختلفة، ويعتقد أن ظهور "الشعبوية" يعود لأسباب ذاتية فهي " خلافا لما تدعيه، تنقاد الشعبوية الى المدار الغوغائي بفعل الضرورة والاخفاق. اي ان محرك نقلتها يعود اساسا الى عيوب ذاتية تدفعها نحو الرهان على الاسوأ، واعتماد التخويف الجماعي وسيلة للخروج من المأزق وتجاوز الخطوط في تعاطيها مع الشأن العام. ومن البديهي ان باكورة ناتجها تعطيل الحياة الدستورية وحرف المسار العام عن مواجهة شاملة، يتحكم دعاتها بوقود اشتعالها، ويتقنون القاء اللائمة والمسؤولية على كل مخالف".
على أن أبرز المجتهدين في مجال تشخيص الأسباب والمدلولات هو الكاتب الأمريكي نعوم تشومسكي الذي اعتبره الكاتب حذام زهور عدي "أفضل من حلّل وكتب حول ظاهرة المرشح والفائز بالانتخابات الرئاسية دونالد ترامب، فقد رأى أن أبرز مدلولات نجاحه تُشير إلى تفكك المجتمع الأميركي ودخوله في أزمات متعددة، أولها اقتصادية، وليس آخرها الأزمات الأخلاقية، مرورًا بتركيبة نظامه السياسي وقدرة تمثيله للشعب الأميركي، وعلى الرغم من وضوح تفسير الآلية الرأسمالية في تركّزها في أيدي قلة من أثرياء العالم، ودخولها في حالةٍ لا تستطيع حلها إلا بإشعال الحروب، إلا أنها في الوضع الأميركي سلكت طُرقًا مختلفة تتلاءم وتطور العصر، واختلاف معطياته. إنها حالة جديدة على النظرية والتنظير، لم تستشفها الدراسات الماركسية بتفصيلٍ قادرٍ على رسم الحلول لفاقدي العدالة، حيث تتمركز الكارتلات المليارديرة في المجتمع الأميركي كما في المجتمعات العالمية الأخرى".
لكن، هذا الواقع، يرى فيه الأمين العام السابق لمجلس الاتحاد الأوروبي والممثل الأعلى للسياسات الخارجية والأمنية بالاتحاد الأوروبي سابقا، والأمين العام السابق لحلف الناتو خافيير سولانا، "تغاضيا عن حقيقة حاسمة مفادها أن الانكفاء على الذات في عالم هذه الأيام ليس خيارا قابلا للحياة، وخاصة بالنسبة إلى الديمقراطيات الغربية الليبرالية".
مثل هذه الأسباب والمدلولات وأخرى كثيرة غيرها، جميعها تنذر بمستقبل أسود يتربص بالشعبوية وبرامج من ينادون بها ويتبنون برامجها، وهو أمر حذر منه الكثيرون من أمثال الكاتب اللبناني جورج سمعان الذي نوه إلى ما تواجهه أوروبا من "خطر الإرهاب المتنامي وتداعي النظام في شرق المتوسط وشمال أفريقيا. وكانت ولا تزال تأخذ على أنظمتها الأمنية عدم التنسيق كفاية لمواجهة هذه التحديات. وهي الآن أمام يقظة المشاعر القومية الضيقة والشعبوية التي تريد عودة مستحيلة إلى الوراء".