الأزمة الاقتصادية المصرية بين حلين 2/2

 

 

 

 

عبيدلي العبيدلي

 

من يُتابع الإعلام المصري بما فيه الحكومي، يلمس اجتهادات جادة من أجل تشخيص أسباب تدهور الاقتصاد المصري، والانطلاق من هناك بحثاً عن حلول مناسبة تعين على انتشال ذلك الاقتصاد من ورطته. 

 

 فالخبير الاقتصادي نقيب الصحفيين المصريين الأسبق ممدوح الولي يرجع "أزمة الاقتصاد المصري الحادة إلى توقف المعونات الخليجية وانخفاض موارد النقد الأجنبي وتراجع الصادرات المصرية وعائدات السياحة وانخفاض عائدات قناة السويس".

 

 أما رئيس قسم الاقتصاد في صحيفة "العربي الجديد" مصطفى عبد السلام فيرى واقع الاقتصاد المصري من وراء نظارة سوداء قاتمة فيعتبره مريضا "في غرفة إنعاش قد تطول، مشيراً إلى تراجع موارد النقد الأجنبي الأساسية وتراجع تحويلات المصريين بالخارج وتراجع الاستثمارات الأجنبية وكذلك عائدات قناة السويس". 

 

مقالة يمكن أن توصف بأنّها شبه شاملة رصد فيها الأستاذ بكلية الزراعة في جامعة الإسكندرية محمد محمود يوسف آراء مجموعة مميزة من خبراء الاقتصاد المصريين، استهلها بما جاء على لسان  الباحث الاقتصادي جلال أمين الذي يرى "أن الفكر الاقتصادي المعروف بالنظرية الكينزية (نسبة إلى عالم الاقتصاد الإنجليزي الشهير كينز) هو الأصلح لمصر على ذات المنوال الذي تم به انتشال الاقتصاد الغربي من الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي، وطبقًا لهذه النظرية فإنّه ينبغي ضخ المزيد من الإنفاق الحكومي والخاص مع تدخل أوسع للحكومة، أي أنّه لابد من زيادة الطلب وخفض الضرائب، وألا يكون الإنفاق مقصورا على مشروعات ضخمة محدودة الأثر على التشغيل والعمالة". 

 

لكن للخبير الاقتصادي حازم الببلاوي، كما ينقل عنه يوسف،  مدخل آخر ينطلق من "النظرية الاقتصادية الأم (النظرية التقليدية لآدم سميث) دون غيرها هي الأنسب في الدول النامية التي تعاني ضعفاً في اقتصادياتها وعدم مرونة الجهاز الإنتاجي وضعف الادخار، ومن ثم فإن علاج الاقتصاد المصري في رأيه يتطلب مزيدا من الادخار لا الإنفاق وتوجيه الصناعة إلى التصدير".

الملفت للنظر هنا، ما جاء على لسان  الكاتب محمد عبد الشفيع عيسى الذي اعتبر أن الاجتهادات المشار لها أعلاه  بمثابة الحوار غير المكتمل، "لأنه يقوم على المناظرة بين مدرستين فقط من مدارس الفكر الاقتصادي، ويتساءل: أين المدرسة النيوكلاسيكية التي تثمن الأفكار التنموية بما تعنيه من تنمية بشرية وتنمية مستدامة؟"

 

وينهي يوسف رصده لتلك الاجتهادات بما جاء على لسان وزير المالية عمرو الجارحي، الذي دعا إلى "مراجعة دفتر أحوال الاقتصاد المصري وتحويله من الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي، حتى نتجنب التأثيرات الخطيرة الحالية التي أدت إلى انهيار سعر الصرف".

 

الصحفي المقيم في لندن محمد عايش، يدلو بدلوه في تشخيص الأزمة الاقتصادية إثر تعويم الجنيه الذي اعتبرته الدولة حلا جذريا يخرج الاقتصاد المصري من ترنحه، محذرا بأن ذلك "ليس سوى خطوة للهروب إلى الأمام، وليس حلا للأزمة الاقتصادية، فالأزمات القادمة ستكون أعمق بكثير، إذ إن أسعار السلع والمواد التموينية والمحروقات والخدمات سترتفع بنسب جنونية، والوضع المعيشي للسكان سيتدهور، والقدرة الشرائية للجنيه ستتآكل، وملايين جديدة من المصريين سوف تنزلق إلى ما دون خط الفقر، أما الأموال والمدخرات والاستثمارات المحلية فتتبخر تدريجيًا، بما في ذلك أولئك الذين تدافعوا في العام 2014 على الاستثمار في قناة السويس والذين فقدوا اليوم رؤوس أموالهم وأرباحهم معًا، وأصبحت الفوائد على حسابات التوفير والودائع في البنوك أفضل من الأرباح على شهادات الاستثمار التي يحملونها!" .

 

أما الخبير المصرفي أشرف بيومي فنراه يشدد على ضرورة "مساندة القطاع الخاص في توفير فرص العمل وتقديم الدعم عن طريق المساندة التشريعية". لكنه على نحو مواز يلتفت نحو الدولة ومؤسساتها، فنجده يدعو إلى ضرورة "تحقيق التوازن في الميزان التجاري المصري فلا يمكن لاقتصاد دولة اعتمد على مدى السنوات الماضية على إدارة اقتصاد يعتمد على الاستيراد بشكل كبير، (ومن ثم كان) على الحكومة أن تركز علي جعل الاستيراد يصب في صالح السلع الوسيطة في العمليات الإنتاجية وتحقيق طفرة في الصناعة .... (كما) ينبغي أن تتعاون الحكومة عن طريق العمل والخطط الواضحة وليس ترك كل شيء علي البنك المركزي.. فالأدوار دائماً مكملة لبعضها البعض في السياسات الاقتصادية".

الخبير الاقتصادي المصري دشناوي يتناول الحلول الجذرية من زاوية مختلفة تماما عمن سبقوه من خلال الاهتمام" بالمشروعات الصغيرة والمتوسطة كثيفة العمالة والمنتجة". 

كل ذلك يضع القائمين على معالجة أوضاع الاقتصاد المصري أمام حلين لا ثالث لهما. الأول منهما يقوم على العشوائية التي ترتكز على الحلول الترقيعية المجتزأة، وأبرز مثال عليها تعويم الجنيه من زاوية مالية محضة بعيدة كل البعد عن الجوانب الاقتصادية الشاملة والاجتماعية المتعلقة بمثل تلك الخطوة. 

أما الحل الآخر فهو تلك النظرة الشمولية التي وردت في مروحة أفكار الخبراء الاقتصاديين المصريين، والتي تنطلق من تشخيص الأزمة من جذورها التاريخية والمعاصرة، وتراها في نطاق خلفية نظرية متعمقة تأخذ في الحسبان الإطار الاقتصادي الشامل المتكامل الذي يضع نصب عينيه اقتصاداً راسخ الأركان تتفاعل فيه مكوناته التقليدية مع مستجدات عصر العولمة وثورة الاتصالات والمعلومات.

 

هذا المدخل الشمولي سيجد أن هذه المعالجة تتطلب أول ما تتطلب اجتثاث الفساد من جذوره كي يتسنى لها بعد إزالة أكسيد الفساد وضع أسس اقتصاد متطور يكفل لمصر عزتها ويحفظ للمواطن المصري كرامته، ويوفر للاقتصاد البيئة الصحية السليمة التي تحقق له مقومات الإنتاج والتطور بخطى حثيثة وثابتة. 

 

والفساد المقصود هنا ليست الرشوة المالية المباشرة فحسب، وإنما ذلك الفساد الشامل المشبك الذي تعانق فيه السلطة المال، وتتحول إدارات الدولة إلى مؤسسات تتولى إدارة ذلك الفساد وهيكلته كي يصبح نظاما راسخا قادر على مواجهة من يحاربه بكفاءة تضمن له الاستمرار والانتعاش، بل وحتى الصمود في وجه من يحاول إزاحته.