عُمان.. بين العمامة العربية والعقال الخليجي

 

 

علي المعشني

ونحن على بعد ساعات من القمة الخليجية في المنامة، تعود الأسطوانة مجددًا إلى ترديد نغمة الاتحاد الخليجي، ولكن هذه المرة على ألسنة مسؤولة غير قابلة للنفي أو النقض.

أقول بأنَّ التصريحات بالاتحاد الخليجي وضرورة قيامه هذه المرة لم تعد بالونات اختبار كسابقاتها، وعلى ألسنة غير مسؤولة أو مقالات صحف أو تغريدات مراهقة على وسائل التواصل الاجتماعي؛ لهذا فالتطور مدلولات وقراءات تختلف عن السابق؛ ففيها أسماء وحيثيات وقناعات تتكشف بجلاء دون تورية أو مواربة.

فمن المتوقع والمرتقب الإعلان في قمة المنامة القادمة عن قيام الاتحاد الخليجي بخمسة أعضاء وبدون السلطنة، والتي أعلنت موقفها الصريح من الاتحاد وتمسُّكها بصيغة التعاون كخيار أمثل للتكامل وصولًا للاتحاد وفق إعلان ميثاق قيام مجلس التعاون لدول الخليج العربية عام 1981.

وبهذا؛ فالإعلان الرسمي المرتقب لقيام الاتحاد الخليجي في المنامة يعني إلغاء صيغة مجلس التعاون والتحلل من نظامه الأساسي وخروج السلطنة رسميًّا من التكتل الخليجي.

ولا بأس من التذكير هنا بالنظام الأساسي لقيام مجلس التعاون لأن الذكرى تنفع المؤمنين، وبالتحديد ديباجة النظام وأهدافه: "إدراكا منها لما يربط بينها من علاقات خاصة وسمات مشتركة وأنظمة متشابهة أساسها العقيدة الإسلامية، وإيمانا بالمصير المشترك ووحدة الهدف التي تجمع بين شعوبها، ورغبة في تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بينها في جميع الميادين، واقتناعا بأن التنسيق والتعاون والتكامل فيما بينها، إنَّما يخدم الأهداف السامية للأمة العربية، واستكمالا لما بدأته من جهود في مختلف المجالات الحيوية التي تهم شعوبها وتحقق طموحاتها نحو مستقبل أفضل وصولا إلى وحدة دولها، وتماشيا مع ميثاق جامعة الدول العربية الداعي إلى تحقيق تقارب أوثق وروابط أقوى، وتوجيها لجهودها إلى ما فيه دعم وخدمة القضايا العربية والإسلامية.

الأهداف: تتمثل أهداف مجلس التعاون الأساسية فيما يلي: تحقيق التنسيق والتكامل والترابط بين الدول الأعضاء في جميع الميادين وصولا إلى وحدتها. وتعميق وتوثيق الروابط والصلات وأوجه التعاون القائمة بين شعوبها في مختلف المجالات. ووضع أنظمة متماثلة في مختلف الميادين بما في ذلك الشؤون الآتية: الشؤون الاقتصادية والمالية، والشؤون التجارية والجمارك والمواصلات، والشؤون التعليمية والثقافية، والشؤون الاجتماعية والصحية، والشؤون الاعلامية والسياحية، والشؤون التشريعية والإدارية. ودفع عجلة التقدم العلمي والتقني في مجالات الصناعة والتعدين والزراعة والثروات المائية والحيوانية، وإنشاء مراكز بحوث علمية وإقامة مشاريع مشتركة وتشجيع تعاون القطاع الخاص بما يعود بالخير على شعوبها". (انتهى)

مشاعرنا العميقة الصادقة ودعواتنا الخالصة في السلطنة كانت -ولن تنقطع- للأشقاء في الاتحاد الخليجي بالتوفيق والنجاح في مساعيهم وجهودهم في اختيار ما يرونه مناسبًا لهم ولأوطانهم. ونحن في السلطنة -وبلسان المواطن العادي- نعتقد أن الاتحاد هو هروب منظم من فشل واستحقاقات التعاون منذ عام تأسيسه في مايو 1981، وهو اعتراف مُبطَّن وصريح في آن بالإخلال القانوني المعيب بنظام وأهداف التعاون، وهو اعتراف صريح -غير مُعلن- بهوية جديدة لأقطار من الخليج بعد أحداث الربيع منذ عام 2011م وما شهدته المنطقة من أحداث توجب العقلاء على التأمل والمراجعة قبل التراجع والقصاص المرتقب من الآخر.

فالهوية القادمة للاتحاد الخليجي هي الهروب إلى الأمام، والمزيد من الانغماس العميق وبسلبية عمياء في القضايا الإقليمية والدولية، وتوسيع دائرة الأعداء ورفع سقف "فاتورة" الثأرات والأحقاد والقصاص؛ فدول الأيام وسنن التاريخ لا ترحم ولا تتوقف.

لا شكَّ عندي كمواطن عُماني عادي وبسيط في أنَّ سياسات بعض أقطار مجلس التعاون بعد عام 2011م ولغاية اليوم وفي المستقبل المنظور، تُشكل لنا في السلطنة عبئًا أخلاقيًّا كبيرًا وحرجًا تاريخيًّا أكبر، فنحن في السلطنة نرفض الميكيافيلية في السياسة ونراعي التاريخ ونتلمس رضاه بعد الله في جميع خطواتنا ومساعينا.

فالتاريخ والأخلاق في وجدان العُماني كالحسيب والرقيب للمسلم السوي، وبقدر سعينا لكسب رضا الله ورحمته في عباداتنا، نسعى كذلك لكسب رضا التاريخ ولبيض الصحائف والتي ستشفع لنا ولأجيالنا بين الأمم. لا يهمنا من لا يقرأ التاريخ، ولا من يعتقد بأن التاريخ توقف عنده، ولا من يعتقد برشوة التاريخ، ولا من يعتقد بأن التاريخ تصنعه مظاهر الحضارة وقشور المدنية، فنحن مسؤولون عن أفعالنا ولسنا مسؤولين عن فهم الآخرين ومساعيهم.

مَنْ يؤرقهم اليوم مواقف السلطنة السياسية والأخلاقية تجاه قضايا المنطقة والعالم كانوا من المعجبون ذات يوم بالحكمة العُمانية وبُعد نظرها في التعامل مع قضايا بعينها؛ مثل: نزاع السلطنة واليمن الجنوبي، وعزل الشقيقة الكبرى مصر، وحربا الخليج الأولى والثانية، واتفاقيات ترسيم الحدود بين السلطنة ودول الجوار على قاعدة لا ضرر ولا ضرار، فما الجديد يا تُرى؟!!!

الجديد الذي يُمكن استنتاجه وقراءته من واقع نتائج الأحداث وقراءة ما بين السطور هو إشهار مخطط باطني إلى العلن لن تسمح السلطنة بتمريره أو المشاركة فيه (ستكشف عن تفاصيله وآثاره الأيام القادمة)؛ وبالتالي لابد من التفرد بتنفيذ المخطط المرجو بمراحله المتقدمة دون "ضجيج" عُماني. في الحقيقة أن هذا القرار الخليجي يُمكن السلطنة من الانفكاك من "العقال" الخليجي برمزياته السياسية والتاريخية والفكرية إلى رحاب وآفاق العمامة العربية تلك العمامة التي ما زالت وستبقى رمزَ كبرياء وتاريخ ومجد وتفرد للعُماني.

فالسلطنة "أُجبرت" بحكم عضويتها في مجلس التعاون على أن تكون طرفًا في قضايا وصراعات ومواقف مضادة لقناعاتها السياسية والأخلاقية ومكانتها التاريخية، حتى وإن كانت هذه المواقف على أشكال وصور بيانات سياسية أو إعلامية أو مظاهر بروتوكولية مجاراة منها لشقيقاتها وحفاظًا منها على وحدة الصف واللحمة ولو بشكل ظاهري. فمن المعروف عن السلطنة أنها تعود لثوابتها السياسية، وتتسلح بها في لحظات تاريخية وتجاه قضايا مصيرية كالأزمة السورية والأزمة اليمنية كمثال. إلا أنَّ إقحام اسم عُمان في بيانات رسمية تحمل كل صفات المراهقة السياسية والعواطف الجياشة والأُمنيات العارية من أي عقل أو حكمة أو سياسة تجاه قضايا ومواقف سياسية إقليمية أو دولية، يمس عقل عُمان ويجرح كبرياءها ويشوه مساعيها ويخدش تاريخها الناصع وسجلها الحافل بالمنجزات العظام، ويؤذي مشاعر مواطنيها والشرفاء والعقلاء في العالم.

فالحكمة والتبصُّر والمبادئ الراسخة للسياسة العُمانية لم تُمنح أو تُهدى لعُمان من أحد، بل صُنعت بعقول عُمانية خالصة ونُفِّذت بأيدي رجالات مؤمنة ومُخلصة، هنا فقط شهد العالم لعُمان وأصبحت عُمان في العقل والضمير العربي والعالمي أيقونة سلام ومحبة يجب على العالم الحفاظ عليها؛ لهذا فعُمان اليوم هي الكيان السياسي الوحيد في العالم والذي تُجمع كافة القوى في العالم على ضرورة تحييده من النزاعات والقلاقل والحفاظ عليه كواحة محبة وسلام ونبع للوئام ومدرسة للمساعي الحميدة.

فعلى الصعيد العربي، تَسْعَى عُمان بجهد كبير لإغلاق ملف النزاع في اليمن بأقل الأضرار والتداعيات المستقبلية، ومن غير المستبعد أن يُغلق الملف السوري في مسقط عن قريب، والأشقاء في ليبيا يترقبون الدور العُماني لتحقيق الوئام بينهم، والأشقاء في الجزائر أدركوا أهمية عُمان في أحداث غرداية، والأشقاء في العراق ينظرون إلى عُمان نظرة تاريخية مُقدَّسة، والجامعة العربية تبنت مقترحَ السلطنة وفوضتها لإعادة النظر في ميثاقها وعُقدت جلستان في القاهرة ومسقط لذات الخصوص.

من هنا، يُمكننا القول وبكل يقينية بأنَّ هامش الحركة وثمرات المساعي العُمانية تحت ظل العمامة العربية أمضى وأجدى، وأنَّ الدور العُماني قد خرج منذ زمن بعيد عن العقال الخليجي بأطره المقيِّدة والضيقة إلى فُسحة لائقة بعُمان الماضي والحاضر والمستقبل، واليوم وبإعلان الاتحاد الخليجي فإنَّ الدور العماني الحقيقي قد انطلق من عقاله إلى رحاب آفاق لا سقف لها.. فهنيئًا لأشقاءنا في الخليج العقال وهنيئًا لنا العمامة.

خيارات عُمان اليوم السياسية والاقتصادية لا حدود لها؛ فهي في حل قانوني وأخلاقي من كافة التزاماتها تجاه منظومة مجلس التعاون بعد إعلان الاتحاد بشكل رسمي، فمن "ثمرات" عقود التعاون المؤسفة أنه أتى على كل الوشائج السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي كانت قائمة طوعًا قبل عام 1981 بدلًا من تقنينها والارتقاء بها، كحرية التنقل للمواطنين والإقامة ومجانية العلاج والتعليم بمراحله والمؤسسات القائمة كجامعة الخليج ومنظمة الخليج للاستشارات الصناعية وطيران الخليج وتليفزيون الخليج ودورة كأس الخليج ومركز الخليج للتراث؛ حيث انصرفت كيانات التعاون وتفردت بقرارات قُطرية لرعاية مصالحها بمعزل تام عن التعاون المرجو، لهذا بقي التعاون حبرًا على ورق طيلة عقوده الثلاثة عدا مظاهر الاحتفاء ودبلوماسية القمة، والتي أوصلتنا إلى أعراض وتداعيات اليوم.

كل ما نتمناه كشعوب أن يُراجع الاتحاد المرتقب المكتسبات والقواسم المشتركة بين أقطار الخليج، وأن يُحافظ ويبني عليها، وألا تأخذهم العزة بالإثم فيمارسوا السادية السياسية ضد أنفسهم فيتبخر ما تبقَّى من القصد والمقصود.

وبالشكر تدوم النعم...،

------------------------------

قبل اللقاء: "لا يُمكن أن يغفر لنا التاريخ حين نُفرط في اسم "عُمان" ليدغم في تكتل سياسي ما، ونلغي هذا الاسم الجميل بمجده وعطائه من الأحاديث النبوية وهيام الشعراء والعشاق والأدباء والمحققين وصفحات التاريخ الناصعة".

 

Ali95312606@gmail.com