د. سليمان المحذوري
لا يخفى على المُتابع للشأن الدولي العام أنّ عُمان باتت محط الأنظار في كثير من المحافل الإقليمية والعالمية، وأضحت حديث المجالس فلا تكاد تمّر أزمة في المنطقة إلا ويكون للسلطنة دور في حلحلتها، ولعل مواقفها السياسية المتفردة جعلها بمثابة صمام أمان للمنطقة ككل، كما يثبت الواقع صلابة وجرأة المواقف العُمانية في المجمل وأهميتها بل وبعد نظرها.
وما من شكّ أن الدور العُماني هذا لم يأت من فراغ ولو عدنا للوراء قليلاً وتحديداً إلى عام 1970م عندما خاطب جلالة السلطان أعزه الله أبناء شعبه في 23 يوليو في بيانه الأول: "كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة، وإن عملنا باتحاد وتعاون فسنعيد ماضينا مرة أخرى، وسيكون لنا المحل المرموق في العالم العربي".
وبقراءة تحليلية لهذه الفقرة من الخطاب تتضح الرؤية الحكيمة للسلطان قابوس آنذاك أين كانت عُمان؟ وفي أي مكان يريد أن يضعها فيه؟ وبالغوص في تاريخ عُمان يتبين لنا أنّ عُمان ليست وليدة الأمس بل دولة حضارية ضاربة بجذورها في عمق التاريخ؛ أكسبها هذه المكانة إنسانها الأول، كما استثمرت موقعها الجغرافي الاستراتيجي في أقصى الجنوب الشرقي من شبه الجزيرة العربية، وإطلالتها على بحار مفتوحة تصلها بمختلف الشعوب في الشرق والغرب عبر مياه المحيط الهندي، إلى جانب تحكّمها في مضيق هرمز كشريان وطريق تجاري مهم منذ القدم، إضافة إلى التنوغ الديمغرافي الذي ترتكز عليه. فعُمان هي مجان عند السومريين، ومزون عند الفرس كما عرفتها الحضارة الفرعوية والفينيقية وغيرها من الحضارات؛ فهي جزء لا يتجزأ من الحضارات القديمة، ولها إسهام لا يُنكر في الحضارة البشرية.
ومن ثمّ استمرت عُمان في مسيرتها التاريخية متكئة على هذا الإرث الحضاري، وقد سجّل لها التاريخ بعضاً من بصماتها اتفاقاً أو اختلافاً ولا ضير في ذلك. وبتقليب سريع لصفحات من تاريخ عُمان بداية منذ أن وطئت أقدام مالك بن فهم أرض الغبيراء، وتمكين الحكم العربي فيها قبل الإسلام مروراً بالقصة الشهيرة لإسلام أهل عُمان، وموقف الرسول الكريم من العُمانيين ودعائه لهم، وعلاقة العمانيين بالخلفاء الراشدين، والمشاركة الفاعلة للعُمانيين في حركات الفتوح الإسلامية، ثم موقف عُمان الاستقلالي من الدولتين الأموية والعباسية، وانتخاب إمامهم المستقلّ في إشارة واضحة إلى رفض التبعية لهاتين الدولتين، كما وثّق التاريخ مواقف عُمانية خالدة في عهد الأئمة العُمانيين العظام، وكذلك الدور البطولي لليعاربة في طرد الغزاة البرتغاليين في منتصف القرن السابع عشر الميلادي ليس من عُمان فحسب وإنما ملاحقتهم خارج الحدود العُمانية إلى الهند وسواحل إفريقيا الشرقية.
وفي مرحلة أخرى من تاريخ العُمانيين، الذي شهد اضطرابات داخلية، ظهر الإمام أحمد بن سعيد كموحّد للعُمانيين من جديد، وكان له دور بارز في تخليصهم من تلك الفتنة التي أكلت الأخضر واليابس وإن لم تُستأصل جذورها تماماً. واستمرت عجلة التاريخ العُماني في الدوران حتى وصلت إلى عهد السيّد سعيد بن سلطان مؤسس الإمبراطورية العُمانية التي ضمت بالإضافة إلى الوطن الأم عُمان أجزاء من باكستان وإيران الحالية، إلى جانب ساحل إفريقيا الشرقي ومناطق من داخلية البرّ الإفريقي.
وبالتالي كان لهذه الدولة العربية ثقلها السياسي وحضورها طيلة النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي، ولها علاقات نديّة مع الدول الكبرى آنذاك بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وبوفاة السيّد سعيد عام 1856م مرّ التاريخ العُماني بمنعطف هام؛ وذلك بتقسيم الدولة العُمانية إلى قسمين آسيوي يضم عُمان وتوابعها وآخر إفريقي يضم زنجبار وملحقاتها، ومن ثم دخلت عُمان منذ ذلك التاريخ في نفق سياسي واقتصادي مظلم لقرن من الزمان حتى عام 1970م وانتهى بتولي جلالة السلطان زمام الحكم في عُمان. ومن ثم بدأت عُمان تنهض من كبوتها رويداً رويدا، وتستعيد بريقها مُجدداً لتلعب دورها التاريخي كدولة محورية في المنطقة مستندة على إرثها التاريخي والحضاري الذي لم ينطفئ وظل شعلة وقادة؛ لتتحق رؤية جلالة السلطان "سيكون لنا المحل المرموق في العالم"؛ من خلال التعامل بحرفية عالية ودبلوماسية فريدة مع كثير من الملفات الشائكة في المنطقة، وحسن التعاطي مع مسألة التوازنات الدولية، ومدّ جسور التواصل والصداقة مع أغلب دول العالم في مختلف القارات.
وبمقاربة تاريخية يُمكن القول إنّ مكانة عُمان اليوم تمثل عصراً ذهبياً آخر من عصور عُمان، وأنّ دور ومكانة السلطان قابوس يشبه إلى حد كبير دور جده السيد سعيد في جعل عُمان دولة مرموقة يُشار إليها بالبنان. ومن خلال استقرائنا لتاريخ عُمان تتّضح الصورة أمامنا؛ فهنالك نجاحات تمثل نقاط قوة في رصيد هذا البلد، وإخفاقات نتعلم منها الدروس والعبر لحاضر أفضل ومستقبل مشرق لعُمان. قال تعالى: "رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ.."، صدق الله العظيم (الآية 126- البقرة).
abualazher@gmail.com