علي المعشني
مهما قِيل وكُتب وحُلِّل عن فوز المرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب برئاسة الولايات المتحدة كرئيس يحمل الرقم 45 في سلسة الرؤساء الأمريكيين، فإنَّ كل ذلك لا يعدو كونه تنفيس وقراءات لأشخاص ومواقع تتجاهل الكثير من المُسلمات لهكذا حالات؛ فيختزلون النتائج والتوقعات في شخص الرئيس وثقافته وخلفياته ومزاجه، اعتمادًا واستدعاءً لتجارب وثقافات لا تصلح أن تكون مقياسًا وميزانًا يعمم على جميع التجارب والثقافات في العالم.
من المعروف أنَّ المناصب شخصيات اعتبارية وليست شخصيات طبيعية، فهي في الأول والأخير عبارة عن مؤسسات قائمة بذاتها وطواقمها الاستشارية وكوادرها الوظيفية، وبالتالي فإن الرئيس ليس سوى كادر من كوادر هذه المنظومة تنسب إليه وإلى عُهدته كافة القرارات والإجراءات المتخذة على مختلف الصُّعد الداخلية والخارجية، وتجاه جميع القضايا، ويتحمل المسؤولية القانونية تجاهها، ودونالد ترامب لن يشذ عن هذه القاعدة بكل تأكيد.
صحيح أنَّ هناك شخصيات كاريزمية مؤثرة تولت زمام القيادة في أمريكا والعالم، واستطاعت أن تترك أثرًا ومشروعا في أوطانها عبر استغلال صلاحياتها الدستورية وتوسيعها كذلك بالإقناع والحجج القوية، ولكن في عصرنا هذا لم تعد الزعامات ولم تعد تلك المشروعات النهضوية وحُصِرت الأمور في المألوف والروتيني فقط.
أمريكا ليست دولة بالمفهوم التقليدي حتى يقرِّر مصيرها رئيس، بل كيان سياسي يتناوب على حكمه لوبيات المال والنفط والسلاح، وجميعهم أبناء شرعيون لثقافة الرأسمالية البشعة والتي تؤمن إيمانًا مطلقًا بحق أمريكا -دون غيرها- في استباحة ثروات الأوطان والشعوب وافتعال الأزمات والحروب في العالم، ضمانًا لديمومة دوران عجلة الاقتصاد الأمريكي، والحفاظ على وتيرة ونمط الحياة الباذخة للمواطن الأمريكي.
من يحكم أمريكا لا بد أن يمر عبر أحد تلك اللوبيات لتزكيته وتعميده سياسيًّا، بغضِّ النظر عن انتمائه الحزبي؛ وبالتالي حين يتولى مقاليد الرئاسة لا مجال له سوى تنفيذ أجندة اللوبي ولي النعمة حرفيًّا، والتي تخدم بالنتيجة والنسبية أمريكا وشعبها.
أمريكا كبريطانيا إلى حدٍّ كبير، دولة تتفوق فيها الأعراف على القوانين السارية خاصة ما يتعلق منها برئاسة البلاد؛ فالرئيس يجب -وفق الأعراف- أن يكون من عرق أبيض وبروتستانتي الديانة وأصوله من الجزر البريطانية أو أوروبا، وأن يكون حاكمًا لولاية أمريكية ومرشحًا لأحد الحزبين الحمهوري أو الديمقراطي، وإن لم يكن منتميًا حزبيًا، لهذا "سقط سهوًا" كلٌّ من الرئيس الكاثوليكي جون كينيدي والرئيس الأسود باراك أوباما، والممثل رونالد ريجان؛ لدواع مرحلية وظرفية محسوبة بدقة.
المرشح للرئاسة الأمريكية غير مسؤول أو مجبر أو محاسب على برنامجه الانتخابي، وفق الأعراف والقوانين الأمريكية، وكل مظاهر الحملة الانتخابية ومضامينها تعتبر للاستهلاك المحلي والإعلامي فقط، وهذا يُدلِّل على أنَّ الأجندة الحقيقية لدى اللوبي الداعم للمرشح وليست على لسان المرشح أو وفق هواه.
الإدارة الأمريكية في الغالب لا تتأثر بالهوية الحزبية للرئيس؛ فللرئيس الحق في اختيار وتعيين عدد من مستشاريه، بدلًا من نظراء لهم في عهد سلفه، ولكنه يحتفظ بالعدد الأكبر من طواقم سلفه؛ فقد احتفظ الرئيس الأمريكي الديمقراطي بيل كلينتون -كمثال- بمايقارب الـ170 مستشارًا وخبيرًا جمهوريًّا طيلة عهدته.
مَنْ سيصنع سياسات أمريكا في عهد ترامب، ليس الرئيس ولا طواقم البيت الأبيض، بل الظروف الموضوعية التي تحيط بأمريكا في الداخل ومصالحها في الخارج. وقد كانت مؤشرات حملة ترامب تجاه الداخل الأمريكي كبيرة ومتعددة، ولن يستطيع التنكر لها بيسر؛ حيث إنَّ أدوات الديمقراطية الاجتماعية المتداولة في الغرب ماضية ومؤثرة في حشد الرأي العام وتجببشه تجاه القضايا المحلية، بينما لا تمتلك أسنانا ولا مخالب تجاه السياسة الخارجية، وترفع شعار المثل الإنجليزي الشهير "لا يهمني ماذا يفعل الصياد، بل يهمني ماذا يحمل بين يديه".
أمريكا اليوم -على الصعيد الخارجي- تعاني بوضوح من كل مظاهر عجز القوة وانحسارها بعد مقامرات لوبياتها في مستنقعات أفغانستان والعراق، وهي المظاهر ذاتها التي منيت بها بعد حرب فيتنام؛ لهذا صرَّح رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكي بملء فِيْه بأنَّ الجيش الأمريكي غير قادر على خوض أية حرب خارج جغرافية بلاده قبل عام 2023م، وهو العام المخطط له لتجديد الأسلحة الإستراتيجية للجيش الأمريكي والتي تقادمت واستهلكت منذ حرب تحرير الكويت عام 1991م. لهذا لم يظهر رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية -وفق تقاليد التعبئة العسكرية الأمريكية- على يسار الرئيس أوباما عام 2013م في فترة التهديد بتوجيه ضربة عسكرية لسوريا، وهو ما يعني رفض المؤسسة العسكرية للضربة وعدم جهوزيتها لأية مواجهة عسكرية.
عام 1969م أعْلَن الرئيسُ الأمريكيُّ ريتشارد نيكسون عن مبدأ نيكسون أو ماعُرف أيضًا بمبدأ "غوام"، وهو عبارة عن خطة بديلة لأعراض انحسار القوة العسكرية الأمريكية من آثار حرب فيتنام، بتهيئة وتفويض ودعم كل من الكيان الصهيوني وإيران الشاة بحماية ورعاية المصالح الأمريكية في المنطقة.
واليوم، تستعين الإدارة الأمريكية -ولذات الدواعي والظروف- بالدواعش من جميع بقاع الأرض، وتوفر لهم كل الدعم والرعاية والحماية، لينفذوا إستراتيجيتها في المنطقة ويحموا مصالحها، في مؤشر سقوط أخلاقي مُريع وغير مسبوق.
أمريكا في العشرية السابقة والعشرية القادمة تعاني وستعاني من جميع أعراض التقهقر والتراجع على الصعيد العالمي، وستنهمك بالداخل وترميم ذاتها بصورة أكبر على أمل منها أن تستعيد بريقها ومكانتها الخارجية لاحقًا، وهي أعراض شبيهة إلى حد كبير بأعراض ماقبل سقوط الاتحاد السوفييتي بعد حرب أفغانستان؛ حيث أدى الانهماك بإصلاح الداخل إلى اقتطاع الغرب لمصالح ونفوذ السوفييت، وفقد السوفييت بفعل البريسترويكا البائسة لميخائيل جورباتشوف لعنصر الصراع مع الغرب، فأنتجت دولة سوفييتية بنكهة غربية ممسوخة تسببت في تآكل مناعة الدولة وسارعت في انهيارها.
أمريكا اليوم ستنكفئ على نفسها قسرًا، وستسقط أذرعها الداعشية في المنطقة تباعًا لامحالة، وستسعى كيانات وتكتلات إقليمية ودولية لملء الفراغ الأمريكي بجدارة كالروس ومجموعة بريكس وتكتلات لاتينية صاعدة وواعدة.
وقد تطول القوى الصاعدة وينال نفوذها من منابر الغرب الفاعلة كمجلس الأمن والأمم المتحدة والصندوق والبنك الدوليين، عبر المطالبة بإصلاح جذري للمنظمتين الأمميتين، والتلويح الضاغط بالانسحاب وخلق منظمات قارية أو دولية موازية عادلة وفاعلة، وتوسيع أفكار بنوك التنمية المشتركة في التكتلات الإقليمية والدولية كبديل عن المؤسستين الماليتين العالميتين البنك والصندوق الدوليين، وبالتالي سحب البساط والنفوذ الغربي الكبير في زمن التراجع والوهن وتشكل العالم أخلاقيًا جراء الخروقات الغربية ومعاناة الإنسانية من الاستغلال والجشع الغربيين.
لن تقوى أمريكا على خوض حرب أو توجيه ضربة عسكرية خاطفة بعد اليوم طالما لم تقوَ على ذلك في عزِّ حاجتها وحاجة أدواتها عام 2013م. ولا تمتلك أمريكا سلاح رعب وفتك أمضى من صناعة الإرهاب وتصديره ورعايته، وفي المقابل يقوم الطرف المضاد بتجفيف الإرهاب وتطهير الأرض وتعقيمها بعناية فائقة وأمام أنظار أمريكا وبعلمها.
خيارات أمريكا وحلفائها اليوم محدودة ومُرة وذات كلفة عالية تصل إلى حد الانتحار والفناء الذاتي، وبقي لهما خيار التصرف كدول ووفق قواعد الإنسانية والسياسة والقانون الدولي والتسلح بما بقي لديها من أخلاق لتحكيم العقل ونيل مصالحها والحفاظ عليها بالندية والتكافؤ مع الآخرين، وباحترام سيادات الدول ورغبات الشعوب وإراداتها الوطنية، وفوق كل ذلك ستبقى أمريكا قوة عظمى وسيبقى تأثيرها ونفوذها الناعم ماضيًا ومسيطرًا إلى حد كبير حين تقرِّر نزع جلدها الاستعماري والاستعاضة عن الرأسمالية المتوحشة بالخضوع لقواعد العلاقات بين الدول.
من أهم مغازي واستنتاجات فوز ترامب بالرئاسة هو الاستخلاص بأنَّ المزاج العام الأمريكي تسلَّح بثقافته الجينية الحقيقية المتناسلة، واختار الرجل الأبيض العنصري المعادي للآخر، ذا النزعة الشوفينية المحضة، كرد فعل عنيف على خطيئة انتخاب أوباما ورئاسته، وهذا الأمر مقبول في الوجدان والأعراف الأمريكية، حتى وإنْ تضاد مع الدستور والتشريعات الأمريكية، والتي تتغنَّى بالمساواة والحرية والعدالة والعالم الجديد.
الخوف أن تمتد حُمَّى ترامب لتستفز الأقليات الملونة والمهاجرين؛ فيحاربوا لوجودهم، وتطفح العنصرية على سطح الداخل الأمريكي، وتسيطر وتستفحل، خاصة وأنَّ دماء المواطنين السود لم تجف بعد، والأيام المقبلة على ما يبدو حُبلى بالمفاجآت الضارة لترامب وعهدته، والسارة لخصوم أمريكا وأعدائها.
-------------------------------
قبل اللقاء: "أمريكا قوة عسكرية تستطيع تدمير العالم، لكنها لا تستطيع إطلاق رصاصة واحدة نحو سوريا"!.. وبالشكر تدوم النعم.
Ali95312606@gmail.com