عبيدلي العبيدلي
"الابتكار والإصلاح الهيكلي أساسيان لتعافي الاقتصاد العالمي"، تلك كانت "الوصفة" التي وضعتها بكين على طاولة قمة مجموعة الـعشرين لعام 2016 للاقتصاد العالمي، التي عقدت تحت شعار "بناء اقتصاد عالمي إبداعي ونشيط ومترابط وشامل". كانت بكين حينها مدركة أن الاقتصاد الذي تخاطبه لم يزل يعاني من تداعيات وأعراض "الأزمة المالية العالمية التي حدثت في العام 2008."
ولم يكن أمام قادة العالم من خيار آخر سوى الموافقة "على رفع إمكانية النمو المتوسط إلى الطويل عن طريق النمو الابتكاري"، الذي كان محور محادثات قادة العالم، وعلى مدى، قبل أن تختتم القمة أعمالها. ولحسن الحظ نجحت تلك القمة في التوصل إلى "توافقات للتشجيع على خلق نظم بيئية للابتكار تحفز الإبداع وتدعم مجموعة من الافكار الإبداعية بريادة الأعمال والعلوم والتكنولوجيا لنمو يقوده الابتكار وخلق فرص عمل"، وهو ما تضمنته "خطة مجموعة العشرين عن النمو الابتكاري".
وفي عرضه لكتاب "اقتصاد الإبداع"، لمؤلفه جون هوكنز، يشير إبراهيم غرايبة إلى أن أهمية الكتاب تكمن في قدرة المؤلف على تشخيص "العلاقة بين الاقتصاد والإبداع"، ذلك أن "الاقتصاد ليس جديدا كما يقول المؤلف، ولا الإبداع أيضًا، لكن الجديد هو العلاقة بينهما، وكيف يؤدي اجتماعهما إلى ثروة استثنائية، وقد أصبحت الملكية الفكرية في السنوات القليلة الماضية ذات تأثير كبير في الناتج الاقتصادي العالمي، وفي طريقة حيازة الأفراد لأفكارهم وامتلاكهم لها، يقول جون هوكنز: لقد أصبح ذوو الأفكار، أي أولئك الذين يملكونها، أكثر نفوذا ممن يشغلون الآلات، لكن العلاقة بين الإبداع والاقتصاد ما زالت غير مرتبة".
وللأمم المتحدة في تقرير صادر لها عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالتعاون مع اليونيسكو، اجتهاد في هذا الصدد، إذ يشجع التقرير دول العالم، وخاصة دول العالم النامي على البدء في التحول نحو الاقتصاد الإبداعي، الذي يعرفه التقرير بالقول: "الاقتصاد الإبداعي الموسع على أنّه موجود" في المكان الذي تلتقي فيه الفنون والثقافة والتجارة والتكنولوجيا".
وعلى نحو مواز، وفي نطاق الاقتصاد أيضا، بدأنا نسمع عن مصطلحات مثل "التمويل الابتكاري"، الذي ما يزال يعتبره البعض مفهوما "معقدا"، لكنه في جوهره "يعتمد على ابتكار نوع جديد من المنتجات المالية: وهو سند مالي يمكن أن تسدده المساعدات التنموية التي ستقدمها الحكومة في المستقبل بدلا من الاعتماد على عائدات مشروع محدد مثل مصروفات الطرق أو مصروفات استهلاك المياه".
الأمر الملفت للنظر في مسألة الابتكار، هو أنّ الأمر لم يعد، كما يبدو محصورا في الاقتصاد، بل اتسع نطاقه فبات الكثيرون يتحدثون عن الدول الابتكارية أو "دولة الابتكار" "The Innovative State". ومن بينهم أستاذ اقتصادات الابتكار بجامعة ساسكس البريطانية "ماريانا مازوكاتو" التي أكدت على "أن الدولة ستكون قائدة وممولة عملية الابتكار، والمبادرة بأفكار مختلفة لمشروعات تكنولوجية غير تقليدية، وموجهة للقطاع الخاص في هذا المجال أيضًا".
ومن الخصائص الرئيسة للدولة المبتكرة، كما تراها مازوكاتو، ننقل مقتطفات نصية تحاول المؤلفة أن ترسم المعالم الرئيسة فيها، وهي:
- شراكة القطاع الخاص: حيث تحث المقالة الدولة "على دعم الابتكار من خلال تسهيل عمل القطاع الخاص، وتسهيل الإجراءات البيروقراطية، وتَحَمُّل ما ينتج عن عمل الشركات من مخاطر، مثل: التلوث، مع عدم قصر دور الدولة في الاقتصاد على إصلاح إخفاقات السوق فقط، والاستثمار في السلع العامة مثل البحوث العلمية الأساسية".
- بناء قواعد معلومات موثوقة وشفافة: وتركز المقالة هنا على ضرورة أن تتسلح الدولةُ "بالذكاء والمعلومات الاستخباراتية الضرورية من أجل خلق تكنولوجيا وقطاعات وأسواق جديدة، والتعاون مع خبراء متخصصين لتحليل هذه الخبرات.
- مواجهة التحديات المجتمعية: وهنا تنتقل المقالة كي تتصدى للقضايا الثقافية الصدئة المترسخة "لسنوات طويلة لدى بعض الاقتصاديين (الذين يصرون على) أن خفض الإنفاق الحكومي سيحفّز الاستثمار الخاص، ونتيجة لذلك قلّصت أجهزة الدولة ميزانيتها". وتدعو المقالة الدولة إن هي أرادت أن تكون مبدعة على ممارسة "دور فعال في مواجهة التحديات الاجتماعية مثل: تغير المناخ، وبطالة الشباب، والسمنة، والشيخوخة، وعدم المساواة، وهو ما يتعارض مع سياسة خفض الإنفاق.
- احتمالية الربح والخسارة: وتركز المقالة هنا على ضرورة سعي الدولة للتخلص من أثقال بيروقراطيتها، فتضع "في حساباتها احتمالية التعرض للخسارة"؛ وتستعين في ذلك بنموذج أمريكي عندما قامت الولايات المتحدة مشروعات بدعم مشروع "التوأم سوليندار وتسلا في العام 2009، فقامت بتوفير ما يعادل 535 مليون دولار لسوليندار في بداية مشروعه للطاقة الشمسية كقرض من وزارة الطاقة الأمريكية، وفي العام نفسه حصلت شركة تسلا المصنعة للسيارة الكهربائية على قرض بقيمة 465 مليون، ونجحت شركة تسلا وسددت الشركة الدين في عام 2013، على النقيض من هذا أعلن سوليندار إفلاسه في 2011".
ولم يكن العرب بعيدين عن هذا التوجه، على الأقل من الناحية النظرية المحضة. فهناك اجتهادات في هذا الاتجاه مثل كتاب الباحث العماني إبراهيم الرحبي الموسوم "اقتصاد المعرفة.. البديل الابتكاري لتنمية اقتصادية مستدامة". وليست سلطنة عمان هي الدولة الوحيدة التي بدأت تتحدث عن هذا الموضوع، فهناك دولة الإمارات العربية المتحدة، التي تؤكد وثائقها على أنّ "الابتكار في الحكومات ليس ترفاً فكرياً، أو تحسيناَ إدارياً، هو سر بقائها وتقدمها، هو سر نهضة شعوبها وتقدم دولها...أنا حكومة مبتكرة، إذاً أنا حكومة موجودة".
لا شك أنّ طريق تحول العرب نحو الاقتصاد الابتكاري، ومن بعده الدول المبتكرة، طويلة ومعقدة، لكن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة. والسؤال هنا متى يخطو العرب خطوتهم الإبداعية المطلوبة، والتي وحدها القادرة على انتشالهم من اقتصاد الدولة الريعية النفطية، إلى الدولة الابتكارية المتنوعة المصادر، المتعددة الأوجه من النواحي الاقتصادية والإدارية.