د. صالح الفهدي
بعد أن كبّدهم المشروع مبالغ لإجراءاتٍ لا تنتهي قائمتها، ومراجعاتٍ طويلةِ الأمدِ، وعراقيل بشريةٍ وتشريعيةٍ، وبعدما رسموا الأحلامَ والطموحات للإسهام في بناءِ الوطنِ تأتي عبارة "عدم المُوافقة" صاعقةً تنسف كل شيء..! وليعودَ كل شيءٍ إلى العدم وكأنما أُلقي حجرٌ في بركةٍ فأثارَ بعض التموجات ثمَّ استقرّ في بطنها فكأن شيئاً لم يكن..!
حين نتحدَّثُ عن استثمارٍ فإننا أولاً نتحدث عن عقلياتٍ منفتحةٍ نحو معنى الاستثمار في الوطنِ، وقيمته. هذه العقليات هي وحدها القادرة على "وضع الحصان أمامِ العربة"، و"وضع القاطرةِ في سكةِ القِطار" بما تمتلكه من قدرةٍ لفهم أبعاد الاستثمار وعائداته على تنمية الوطن. أمّا العقليات المُنغلقةِ، فهي سلبيةٌ لا يُمكن لها أن تعمل على تهيئةٍ مناخٍ مُناسبٍ للاستثمار سواء ذلك القادم من الخارج أو الداخل..!
إنَّ أعظم عاملين للاستثمار في أي بلدٍ هما الاستقرار السياسي والأمن، فإذا توفرا لوطنٍ ما فإنّه ما من أسبابٍ جوهرية أخرى يفترض بها أن تُعيق فيه بيئة الاستثمار إلاّ فقدان القيادة الكفوءة التي تدير عجلة الاستثمار بطريقة واعية، منفتحةٍ، عصريّة. لقد استطاعت دولٌ ناشئة لا تملكُ بُعداً جغرافياً، أو موارد طبيعية أن تستقطب الاستثمار في مجالاتٍ تخصصت فيها لسبب واحدٍ مكّنها من ذلك وهو انتقاء القيادة الفاعلة، الكفوءة التي بدورها اهتمت بصناعة الإنسان لكي يبني الأوطان.
الاستثمار يحتاجُ إلى البيئة المُشجّعة وهي تلك المتعلقة بالتشريعات التي يفترضُ بها أن تتواءم مع طبيعة الاستثمار العصري، وأن تدخل أجواء المنافسات الدولية المستقطبة للمستثمرين لا أن تظل التشريعات وكأنها نصوصٌ لا يجوز التعديل فيها ولا التغيير. في إحدى الوزارات الخدمية قال لي مسؤولون إنّهم بصدد تغيير الكثير من الإجراءات المُعيقة، قلت لهم: تلك خطوةٌ على الطريق الصحيح، ولكنني أقول لكم بأنَّه لا فائدة من تغيير يأخذ وقته المديد قبل أن يُطبّق، لأنَّه في حال تطبيقه بعد مدة طويلة سيكون الآخرون قد تجاوزوه بمسافاتٍ بعيدة..! هذا عصرُ التحرّك السريع، والتغيّر المتلاحق، والقرار النَّافذ في حينه. لهذا فمن لا يؤمن بالتغيير فلا يجب أن يكون له مكان في قيادةٍ أو في وظيفة.
لا يجبُ أن تصاحب الاستثمارِ معاناة ترتبطُ بعسر الإجراءات والتصاريح والاشتراطات، واللوائح، وسلبيات الموظفين، وإعاقات المُفتشين، وعقليات الخبراء العتيقة..! بل يجبُ أن تتاح الطرق السالكة للاستثمار برفع القيود، وتسهيل الإجراءات، وتيسير كل السُبل للحصول على الخدمات. وفي هذا المنحى لم تكن فكرة "الحكومة الإلكترونية" قد جاءت لتكون نسياً منسياً، وإنما لتكون هي الأداة الفاعلة في تسهيل الإجراءات..!
لا يُمكن للحكومة الإلكترونية أن تنشأ كمجرد برنامج على أنظمة نظم المعلومات، فتترك لمن شاءَ أن يستثمر فكرتها كما شاء، بل تحتاج إلى قيادةٍ تتولى أمرها، وتعملُ على "فرضها" كأسلوبِ عمل لا يستغنى بغيره في هذا العصر التقني. أين ذهبت تلك الشعارات والإعلانات التي ظهرت في فترةٍ ما؟ كيف خبا صوتها الآن ويفترض به أن يعلو ويسود في كلّ مكان؟. سردتُ في حديثٍ سابق عن "حتمية التغيير" قصّة المسؤول الذي أعاق لسنوات وجود أجهزةٍ لمُتابعة إجراءات الاستثمار في متناول أيادي النَّاس ثم عاد بعد هذه السنوات ليُطبق الفكرة التي كانت قد أثارت غضبه في حينها..!
آلمني أن أرى شباباً يعملون في مقهى افتتحوه وبذلوا لأجله الأموال الطائلة أن أجده بعد فترةٍ وجيزة وقد أغلق بابه الزجاجي، وتكثفت الظلمة فيه وعمَّ السكون..! لا أدري ما هي نفسية أولئك الشباب الذين حكوا لي ذات مرّة معاناتهم، أحسبهم يصارعون الديون الآن صراعاً محتدماً ..!
لا أستطيع أن أُفكّر في جهةٍ ما يُمكن للإجراءات أن تستمر فيها أقل من شهورٍ عديدةٍ طويلة مصحوبة بمعاناةِ التأجيل والتسويف والتأميل وبطء الحركة وتجدِّد الاشتراطات غير الواضحة، وتعدِّد المتطلبات غير المنتهية. أغلبُ ما يردُ في ذهني من متابعات شتى، ومصالح تمرُّ في كل جهةٍ بنفس ما تمر به في الجهةِ الأُخرى..! ألا من طائرٍ يغرّد خارج السرب..؟!
اشتراطاتٌ لا تنتهي ابتداءً بما يُسمى "الجدوى الاقتصادية" التي لا ينتفع منها أحد غير المكاتب الاستشارية التي يقوم بعضها بمجرد عملية "نسخ ولصق" البيانات، إذ لا تناقشها الجهة الطالبة، ولا يعلمُ ما فيها صاحب المشروع، لكنها مجرد شرط من الشروط طُلِبَ فلبِّيَ..!! سلسلةٌ من المتطلبات أحرى بها أن تحذف ويستغنى عنها لأنّها مُعيقة بل ومحبطة..! ولوائح عفا عليها الزمن وتقدّم دون أن يشوبها التغيير، ويطالها التحديث لا يزال العمل جارياً بها أجدى بها أن تخضع لتغيير مستمر، وتطوير متكرر فهي أيضاً نصوصٌ جامدةٌ لا تساعدُ على الاستثمار، ولا تُعين على التغيير..!
إننا بقدر حاجتنا إلى وجود جهات تدقق في الإجراءات الإدارية والمالية، وتدقق في أسعار السلع وفسادها، ومراقبةِ السوق وغير ذلك من الإجراءات، بحاجةٍ إلى جهة نافذةٍ تدفعُ الجهات الخدمية والتشريعية وغيرها لكي تزيح العقبات، وتفسح الطريق لتسهيل الإجراءات، وإزالة كل ما يسبب معاناة للمستثمر من أبناء الوطن أو من خارجه. جهة تراجعُ القوانين وتعمل على توافقها وانسجامها وعدم تناقضها وازدواجيتها بين جهةٍ وأخرى. جهة تملك الصلاحيات الواسعة، والقرارات النافذة لتدفع قدماً كل فرصة للاستثمار كي تتحقق، وتعين كل من يُريد أن يستثمر أمواله بكل طريقة ممكنة وعلى رأس ذلك البُنى الأساسية.
القرارُ في الاستثمار لا يجب أن يستغرقه الكلام، ولا الأحلام وإنما يجبُ أن تبادر إليه العقول الفاعلة، والعزائم القوية التي تمتلكها الكفاءات الإنسانية التي يفترض أن تمكّن من أجل أن تقوم بعملها في سلاسة ويسر.