منظومة التجارة بحاجة إلى مراجعة شاملة

 

علي بن مسعود المعشني

الحقيقة أنني من الذين يشعرون بالامتعاض الشديد والحساسية المفرطة لبعض السجالات المهدرة للوقت والجهد بل والمشوهة لصورة الدولة الفتية المتطلعة للرقي والتنمية الشاملة بوتيرة متدرجة وثابتة .

ومن أمثلة تلك السجالات المضيعة ، سجال بيع المشاكيك بين المواطنين والبلديات والتي تعاظمت من قضية مكتبية سهلة وبسيطة إلى قضية رأي عام وحديث المجالس بينما كان يُمكن حلها ووضع ضوابط لها من قبل رئيس قسم أو مدير دائرة على الأكثر دون ضجيج أو استثارة سخط الناس واستفزاز مشاعرهم.

لا يوجد عاقل واحد يقر بخرق القانون أو انتهاك الاشتراطات الصحية للمواد الغذائية التي تقدم للنَّاس، وفي المُقابل لا يوجد عاقل واحد يٌقر بمعاقبة النَّاس وقطع أرزاقهم دون خلق بدائل مُجدية لهم أو تقديس النصوص القانونية وكأنها منزلة من السماء. فالحكمة تقتضي منِّا أن ندرس حالات هؤلاء النَّاس والذين دفعتهم الظروف المعيشية إلى افتراش الأرصفة والطرقات لكسب قوت يومهم من نشاط يجيدونه ويعتقدون بملاءمته لهم ماديًا ومعنوياً، وفوق هذا يلاقي تجاوبا وتفاعلا من المجتمع كنشاط وجودة أحيانًا وطريقة تسويق مبتكرة كذلك. فالقوانين في فلسفاتها العميقة وجدت لتحفيز المجتمعات وتأطير حاجاتهم من نسيج أخلاقهم وثقافتهم وليست للعقاب.

بدلًا من أن تسلك الجهات المُختصة السلوك الطبيعي والمنطقي وتعمل على تقنين وتكييف تلك الأنشطة مع حاجات العمالة الوطنية والمُستهلكين كطور من أطوار التجارة وتحولات المجتمعات وتعدد وتنوع ذائقتها، نجدها تسلك سلوك المربع الأول وهو المخالفة والتهديد والوعيد.

الحقيقة أنّ شيوع هكذا سلوكات وإجراءات من قبل الجهات الرسمية تجاه ما لم تألفه ينم على غياب الأهداف الإستراتيجية عن أذهان البعض وغياب روح الفريق عن عمل الحكومة.

ففي الوقت الذي تدفع فيه المؤسسات التعليمية بآلاف المخرجات سنويًا لسوق العمل ناهيك عن آلاف المُتسربين وآلاف المتقاعدين، وفي ظل شٌح الوظائف وارتفاع مؤشرات وأعداد الباحثين عن العمل، وفي الوقت الذي تتهافت فيه العديد من الجهات الرسمية والخاصة لتشجيع العمل الحر والإدارة الذاتية والتخفيف عن كاهل القطاع العام من التكدس الوظيفي، مازال هناك من يُغرد خارج السرب ومنظومة الدولة ويحتكم لتشريعات وإجراءات عفا عليها الزمن وأكل وشرب، ظنًا منه بقدسيتها وصلاحيتها لكل زمان ومكان.

 كان من المفترض والمتوقع والمقبول أن تتلقى الحكومة تلك التصرفات الفردية من أنشطة الباعة المتجولين على أنها أفكارًا وحلولًا مجتمعية تفتقت عنها عقول الشباب الراغب في إبراز ذاته وإرضائها والاعتماد على نفسه واختراق المحاذير والموروث الاجتماعي والنَّظرة المُتناسلة لبعض من تلك الأنشطة في وجدان المجتمع والتي كانت حصرًا وحكرًا على الوافدين، وأن تشعر الجهات المختصة بأنَّ تلك الأنشطة أصبحت ظواهر حميدة وفرصاً معيشية جاذبة لشريحة مُهمة ومُتعاظمة من المواطنين ومن تلقاء أنفسهم وحاجاتهم المعيشية الطبيعية دون وصاية أو تقنين أو إكراه من أحد وبالتالي آن الأوان للجهات المختصة أن تُحيط تلك الأنشطة بكل عوامل الجذب التشريعي والمُباركة والدعم المادي والمعنوي والتسهيلات الموضوعية، بدلًا من التنفير والتسلط والترهيب دون خلق البديل، البديل القادر على إغلاق باب السخط ورفع منسوب الرضا عن الوطن والمجتمع.

ما تقدم من حديث كان استهلالًا لاغنى عنه للوصول إلى مارشح عن قرار لوزارة التجارة والصناعة بالسماح بمزاولة (14) نشاطاً من قبل المواطنين أغلبها أنشطة الباعة المتجولين، وهذا قرار حكيم يواكب المرحلة ويقرأ الواقع بمنطق وعقلانية ويواكب أطوار الدولة والمجتمع ورغباتهما وحاجاتهما بلا شك.

كل ما نخشاه ألا يكون كغيره من القرارات الورقية البرَّاقة التي ظاهرها رحمة وباطنها عذاب، في زمن نتطلع فيه إلى تحقيق الكثير من المراجعات لمنظومة التجارة في السلطنة وجعلها جاذبة بل ومُغرية لقطاع واسع من المواطنين في مجتمع غر وفتي بالتجارة وثقافتها وحرفيتها، عبر تبسيط الإجراءات وتقليصها واحترام الوقت، وتحويل جميع الخدمات إلى مفهوم السلعة وما يحفها من ترويج وتسويق وجذب، كخطوة بناءة من خطوات بناء إستراتيجية التنوع الاقتصادي وتشجيع العمل الحر والمبادرات الفردية والتقليل من الاعتماد على الحكومة في مجال التوظيف، وإفشاء وبسط الرضا عن الوطن في أجلى صوره.

كل ما أتمناه أن تقوم وزارة التجارة والصناعة بتشكيل فريق عمل لمُتابعة القرار ورصد آثاره السلبية والايجابية والاقتراحات عليه من قبل المعنيين ووسائل الإعلام المختلفة، وبالمسوحات والدراسات الميدانية، للتغلب على صعوباته في التطبيق حتى يستقر القرار ومضمونه وأهدافه بصورة نهائية تخدم الوطن والمواطن والمصلحة العامة، ومعرفة ما يتصل به من أنشطة أخرى لم يشملها القرار لتقنينها وتيسيرها للمواطن بلاضرر ولا ضرار.

كما يجب علينا أن نفهم بأنّ للمجتمعات أطوارها الطبيعية والتي ينتج عنها خيارات واحتياجات جديدة تنمو معها وقد لا تكون مألوفة من قبل ولا موجودة ومنها في قطاع الأعمال والتجارة، وبالتالي تقوم الحكومات الواعية عادة برصد تلك التحولات واستثمارها عبر إحاطتها بكل وسائل العناية والرعاية والتقنين لتصبح من عادات المجتمع وسماته ومتطلباته دون إخلال أو تقاعس أو تلكؤ أو صدام.

قبل اللقاء: المواطن هو إنسان بداخل وطن، أما الوطني فهو إنسان بداخله وطن.

وبالشكر تدوم النعم

Ali95312606@gmail.com