د. صالح الفهدي
احتفلت المرأة العمانية بيوم "المرأة العمانية" وقد حضرتُ إحدى هذه الفعاليات التي تفتخرُ فيها المرأةُ وتتفاخر بما مُنحت من حقوقٍ في ظل العهد السامي لجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم أطال الله في عمره، كما وأنها أثنت على ما حققته من تميّز في مجالات مختلفة، وما حظيت به من مراتب مرموقة في صُعُدٍ شتى حكوميةً كانت أو خاصة أو أهلية. وهي إنجازات لا تعبّر عن عزيمة وإصرار المرأةِ فحسب؛ بل ودعم ووقوف الرجلِ أباً وزوجاً وأخاً وإبناً ومسؤولاً إلى جانبها، وإيمانهِ باستحقاقاتها السامية في بناء المجتمع، فضلاً عن المساحة الواسعة التي منحت لها للبروز في ميادينَ العلم والعمل.
كما أنّ ما نالته المرأة من حقوق تعود إلى سياسة عاهل البلاد المفدى التي وضعت المرأة في مرتبة متساوية مع الرجل في بناء المجتمع، مساواة على الصعيدِ الإنساني والحقوقي في مختلف المجالات العلمية والعلمية والاجتماعية والوظيفية حيث وصف جلالته الوطن بالطائر بجناحين، قاصداً بهما التشبيه للمرأةُ والرجل.
نسمعُ عن الإنجازات الكبيرة التي حققتها المرأة الوزيرة، الوكيلة، القبطان، الطبيبة، المهندسة، عضوة المجالس الشوروية والبلدية وهلم جرا.. هذه كلّها لم تكن لتكون لولا أنّ السياسة الحكيمة التي نُهجت في هذا الوطن قد أتاحت للمرأةِ الفرص السانحة، وبوأتها المراكز المرموقة، مما جعلها أهلاً للمسؤولية والأمانة.
إنني في ظلّ هذه الحماسةِ وأنا من ساند المرأةَ في كتاباتي وبرامجي ودعمي بقدر الإمكانيات أخشى أن يطغى هذا الخطاب على أهم إنجازات المرأةِ في الوجودِ وهو التربية؛ تربيةُ بناةُ المستقبل.
فـ"المرأةُ المربية" أجلُّ وأعزُّ لقبٍ ووظيفة يجبُ أن تفتخرُ بها المرأةُ قبل كل إنجازٍ دون تقليل مما تحققه في مجالات الحياة. أقولُ مهلاً لمن يحسبُها دعوةً للتخلي عن الكفاحِ والتميّز فدور المرأة في التربيةِ لا يتقاطعُ مع هذه الأدوار الوظيفية الأخرى. ودور "المرأة المربية" لا يفهم منه عدم مواصلة الطموحات في عصرِ العلم والعمل وإنما عليها أن تمتلك الأسس السليمة لتربية ورعاية أبناءٍ وإدارة بيت بكفاءة عالية.
إذا تبوأت المرأة منصباً رفيعاً، أو حصلت على شهادة علمية عليا، أو أصبحت رائدة أعمالٍ بارزة ولكنها مع ذلك أهملت في دور "المرأة المربية" فإنها ستسقط أهم واجباتها في الحياة..! وسيُعزى إليها التقصير قبل الرجلِ في نشأةِ الأبناءِ وتربيتهم..!
لهذا يجبُ أن يكون للمرأة المربية أولوية ترتفعُ بها الأصوات في زمنٍ نحتاجُ فيه إلى المرأة المربية قبل الرجلُ المربي، يقول الشاعر معروف الرصافي:
ولم أر للخلائق من محلٍّ .. يهذبها كحضن الأمهات
وأخلاقُ الوليدِ تقاسُ حسنا.. بأخلاق النساءِ الوالداتِ
إذا أسقطت المرأةُ هذا الواجب الجوهري من أهدافها السامية بفعلِ الاندفاعةِ والتغافل فاتجهت إلى الوظائف الأخرى فإنه مهما كان لها من تميّز وتفوّق في أي حقل آخر فلن يغنيها ذلك عن دورها الأساسي وهو التربية التي هي عمادُ الوطن، وأساس البناء الأصيل.
نعني بهذا أن يكون الهدف التربوي عند المرأة على رأسِ أهدافها، تصدحُ به حناجرها، وتشمّر له سواعدها، وتحسن من أجله التعلم والتثقف لتقوم به على أحسن وجه، ومع ذلك لا يكون هو الدور الأوحد بل يتكامل مع الأهداف الأُخرى ذات الأهمية في حياةِ المجتمعات.
فهي إن تعلّمت واقتصرت على تربية أبنائها فقد سخّرت نفسها لتنشئةِ جيلٍ سليم الأخلاقيات، عالي الغايات. وإن هي عملت في وظيفةٍ عامة أو خاصّة لم تلهها عن دورها التربوي الذي يجبُ أن تكتسب مهاراته، وتتعلم أُسسه.
أمّا إذا سلّمت المرأة الدور التربوي للعاملات الوافدات في المنازلِ على إطلاقهِ فسخرت جلّ وقتها للتنافس مع الرجل والأخريات من بنات جنسها، وأشغلت نفسها بما يتعلقُ بوظيفتها أو بأعمالها الخاصة فإنّها ستسهم في هشاشةِ أوطان، وتضضعِ أركان، وتهدّم بنيان، وضياعِ فتياتٍ وفتيان...!
لهذا آملُ أن نشهد في المناسبات القادمة بل الأيام المقبلة تغييراً في نوعية الخطاب، بتقديم الهدف التربوي للمرأة العمانية ليكون على رأس الأهداف لأن النشء يعاني من مشكلاتٍ تربوية وأخلاقية كثيرة تستحق أن توليها المرأة قبل الرجل عنايتها ورعايتها.
آمل أن تقام ندوات "المرأة المربية" إلى جانب المرأة رائدة الأعمال، وتنتشر ورش المفاهيم العليا لمشروع بناءِ الأسرةِ إلى جانب ورش المشاريع الصغيرة، وندوات إدارة البيوت وتربية الأبناء إلى جانب ندوات الإبداع والابتكار في علوم العصر. هذا الحراك سيضمن بقاء التربية على رأسِ الأهداف العليا للمرأةِ مما يطمئن وطناً بأكمله بأنَّ له أماً ترعى قيمه، وتربّي نشأه، وتتعهده بالفضائل والمكارم.
لا يمكنُ للرجلِ أن يتحدثَ عن الحقوقِ ويهمل الواجب، كذلك لا يمكن للمرأةِ أن تطلبُ حقاً وتنسى واجباً، وواجبُ التربيةِ أسنى الواجبات وأسماها.
فكيف هو حالُ المجتمعِ إن تخلّت المرأة عن واجبها الوجودي في التربية؟! ألا يضلُّ أبناؤه، وينحرفُ أحداثهُ، ويضلُّ شبابه، ويرتبك رجاله؟
آلا تختلطُ الأدوارُ بين الرجلِ والمرأةِ فلا يدري هذا وتلك ما هي الواجبات الجوهرية لكلٍ منهما..؟!
إن شريحةُ من الفتيات قد اقتحمن مجالاتٍ لا تتناسبُ مع طبائعهن الأنثوية، فهل ذلك من أجل منافسة الرجلِ وإثبات أنّ المرأة قادرة على أن تمتهن الوظائف التي يمتهنها الرجل في عمومها!!.. أم أنّ هذا الاتجاه هو نتيجة للخطاب السائد بأهمية منافسة المرأة للرجل، وعلى أنها قادرةٌ على أن تقوم بالوظائف والأعمال التي يقوم بها..! فإن كان كذلك ففي هذا تصوّرٌ موهوم، وخطأٌ مذموم..! إذ أنه كما للرجلُ طبيعته فللمرأةِ طبيعتها أيضاً ولا يمكنُ لها بحكم هذه الطبيعة أن تشتركَ مع الرجلِ فيما لا يتوافق مع الطبيعة الفطرية التي خلقها الله عليها.
وأخيراً أقولُ بأنني أراهنُ على العقلية المستنيرة للمرأة لتعي جوهرَ هذه الدعوة "المتوازنة" التي أدعو بها لوضع دور "المرأة المربية" على رأسِ كل واجب، وفي قمّة كل مناداة، وفي مقدمة كل دعوة، فمن شأن ذلك أن يقوّم شأن الأخلاق، ويعين النفوسَ على الصلاح، ويحفّز الأذهان على التميز والإبداع، ويقيم أركان مجتمع سليم البُنى، صحيحِ القواعد.
دعمنا للمرأةِ ناتجٌ عن المحبّة لها واليقينِ بقدراتها وإمكانياتها وبأنّها ليست في فهمنا العميق نصف المجتمع فحسب بل لأنها موردُ العطاءِ، ومصدرُ الرخاءِ فيه، بيدَ أن ذلك لا يجعلنا نغفل أو نتغافل عن التذكير بأهمية تصويب المسار الإنساني بحسب ما تقتضيه ضرورة الفطرة الإنسانية، وصناعة الإنسان، وبناءِ الأوطان، وهو الأمرُ الذي نفعله مع الرجل بأكثرِ من ذلك بكثير في كتاباتنا ومناشداتنا.