المعتصم البوسعيدي
"يا ضوء روحي العراقيين.. يا وَجَعي / وكبريائي.. ويا عَيني التي سَمَلُوا / أنتُم أضالِعُ صَدري ..كلّما كَسَروا / ضلعاً أحِسُّ شِغافي وهوَ يَنبَزِلُ" هكذا يصف الراحل الكبير الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد العراقيين، وقد صدقَ في قولهِ؛ فرغمَ وجع العراقي وألمه، ورغم صروف الأيام ومِحنها، نراه ـ أي العراقي ـ يكتب عن الحُبِ، يرسم البسمة، وينثرُ الفرح في شتى الميادين، ولعلَّ كرة القدم هي قمر الليالي المظلمة.
لا منطق ـ قادني ـ حول تفوق كرة القدم العراقية على كافةِ المستويات، وانتفاضتها على كل الظروف الصعبة التي يُعانيها العراق بشرًا وأرضا، إلا "سيكولوجية" الإنسان العراقي التي تنتصر على نفسِها لتزرع الأمل لبلادِ دجلة والفرات، سواء على مستوى المنتخبات بكل فئاتها أو الأنديةِ المتفوقةِ في مسابقةِ كأس الاتحاد الآسيوي على حسابِ دول تعيش من الرفاهيةِ والاهتمام الرياضي ما يُضاهي كرة القدم العراقية.
عندما تبادر لذهني لفظ "سيكولوجية" الفرد العراقي، رسمتُ خارطة ذهنية حول ماهية هذه السيكولوجية؟! وعبر بحثي البسيط توقفت كثيرًا عند نظرية الدكتور علي الوردي "إزدواجية الشخصية العراقية" التي وقعت في إنفصام ـ إن صح التعبير ـ بين البداوة والحضارة، إلى ما ذكرتهُ الدكتورة دنيا الطائي عن مرونة شخصية الإنسان العراقي الحالي: "إن هذا التراكم الثقافي منحها مرونة إدراكية ومعتقدية وحتى انفعالية كامنة يُمكن استثمارها إيجاباً لإعادة تأهيلها ديمقراطياً ضمن إطار وعي اجتماعي جديد" هذه المرونة والتراكم الثقافي، علاوة على العمق الحضاري عند إسقاطها مجتمعة على اللاعب العراقي ـ في اعتقادي الشخصي ـ أجدها الاستثمار الأساسي في تحقيقِ الإنجازات العراقية الكروية، والتي كان آخرها كأس آسيا للناشئين وقبله الحضور المشرف في دورة الألعاب الأولمبية بريو دي جانيرو.
المنتخب العراقي الأول ينشطُ حاليًا في التصفياتِ النهائيةِ المؤهلةِ لمونديال روسيا 2018م واستطاع قبل يومين أن يُعيد أمل المنافسةِ على الصعودِ عقب فوزه العريض على المنتخب التايلندي برُباعية بيضاء، وحين الكلام عن المنتخبِ الأول، فالذاكرة لا تمحو هدف يونس محمود في نهائي آسيا، الفرحة كانت يومها عارمةً باللقبِ القاري الكبير ليس في العراقِ فقط وليس لكونها فرحة فوز بالكأس؛ بل كان فوزًا للعراق المسكون بالحزنِ والموت، فطافَ الفرح أرجاء العالم، ولملمَ كل أنواع الشتات الجغرافي والقبلي والعرقي والطائفي، وظهرت دهشة السؤال: كيف قهرَ العراقيون الظروف؟! إنها "سيكولوجية" الإنسان العراقي الثائرة، وإن كان الشيء بالشيء يُذكر، فعند تحقيق منتخبي العراق الأول 2007م والناشئين 2016م بطولة كان منتخبنا الوطني قاسما مشتركا بوجوده في نفس مجموعة العراق في كلتا المناسبتين فكان التعادل السلبي في الأولى والإيجابي في الثانية، قبل أن يواصل أسود الرافدين طريقهم للمجدِ الآسيوي.
لا أدعي أني سبرتُ أغوار الشخصية العراقية، أو حللت ـ ولو بالنزر البسيط ـ ما قيل عن "سيكولوجية" الفرد العراقي التي وقعت ـ وتقع ـ تحت ضغط داخلي وخارجي لجره نحو أجندة معينة، لكنني أدعي ـ حقًا ـ إعجابي وفخري بالعراقي الذي عهدناه ـ في عُمان على أقل تقدير ـ مُعلمًا ومهنياً صاحب معرفة ورسالة، وإنسانًا مؤثِراً في أي بيئة يعيشها، وربما نجد خصوصية في العلاقةِ الإنسانية العُمانية العراقية نظير التلاقي والترابط الحضاري خلال الحقب التاريخية المختلفة، ومن الضروري أن نستثمر ذلك في كرتنا التي لم ترتق بعد للطموح؛ بأن نتعرف على "سيكولوجيتنا" فنحن أيضًا أصحاب تراكم ثقافي وحضاري يجب استثماره على أكمل وجه، وأرى أجمل بداية لتحقيقِ مُنجز رياضي أن نبدأ من رياضات البحرِ والشواطئ كونها مرتبطة بالشخصية العُمانية من جهة، وتفوقنا فيها على المستوى الآسيوي من جهة أخرى.
لقد أصبحتُ وأنا أرى ما تُحققه الكرة العراقية أسير سؤال لطالما استحوذَ على تفكيري: من أي طين أنتم أيها العراقيون؟! أسعفتني ذاكرتي للإجابة بترنيمة شاعر القادسية وأم المعارك عبد الرزاق عبد الواحد ـ رحمه الله ـ وهو يختتم أبيات قصيدته "المنعطف" : لقد حباني عراق الكبر تزكية / أني به، وله، مستنفر كلفُ / وأن لي فيه ظلا لو وقفت / شمس، لأبصرت ظلي فوقه يرفُ/ وذاك أن له هو ضوء مشمسة/ ولي أنا تحتها رسم ولي كنفُ" إنّه العراق وكفى.