د.عبدالله باحجاج
في الوقت الذي تُعقد فيه جلسات للعصف الذهني من أجل صناعة قاعدة عريضة لاقتصادنا الوطني، تنكشفُ للرأي العام حقائق مرعبة جدًّا، تمسُّ مُستقبل القاعدة الوطنية لهذا الاقتصاد المأمول، ونعني بها تحديدا قاعدة العلوم والتكنولوجيا، التي سيتوقف عليها مستقبل هذا الاقتصاد القوي، ودون هذه القاعدة لا يمكننا أن نراهن عليه -أي الاقتصاد متعدد المصادر- في ديمومة الاستقرار الاجتماعي، بل إنَّ عدم التزامن بين الصناعتين: صناعة المصادر الاقتصادية وصناعة القاعدة الوطنية التقنية، لا يُمكن أن ينتج لنا اقتصادًا قويًّا له انعكاسات اجتماعية بنفس القوة، وسيكون المشهد صارخا في التعارض على النحو التالي: اقتصاد قوي، ومجتمع ضعيف. ومن هنا، يستوجب فتح هذا الملف من هذا المنظور الوطني العاجل.
نفتحه في ضوء ما كشفه مركز القبول المؤحد عن قرابة 11 ألف طالب وطالبة تركوا مقاعد الدراسة الأكاديمية عام 2014-2015، من كلا الجنسين، ومن الجامعات الحكومية والخاصة، وأغلبهم أصحاب تخصُّصات تقنية؛ فقد نال تخصص الهندسة والتكنولوجيا 31% من المتسربين، وتخصص الإدارة والتجارة 28.9%، وتخصص تكنولوجيا المعلومات 12%، فيما كانت نسبة المؤهلات المنسحبة كالآتي: 69.5% البكالوريس، و25.8% الدبلوم، و4.2 الماجستير، هل هزَّ هذا الخبر الحكومة عامة وجلسات العصف الذهني خاصة؟ لسنا في دائرة الضوء حتى يُمكننا الإجابة مباشرة وبصورة صريحة عن هذين التساؤلين، كما لم نرصد أية ردود فعل منهما، ولا من مجلس عُمان، لكن من حيث المبدأ نفسه، فهذا الانكشاف يأتي ليعزز المخاوف التاريخية في فشلنا مجددا في تأهيل مواردنا البشرية، فكيف الآن بعد هذا الانكشاف؟ وإذا ما حاولنا أن نتعمَّق فيه قليلا، فهل هذا التسرب الفوقي هو امتداد للتسرب التحتي، ونعني هنا به ظاهرة تسرب الطلاب من المدارس في مختلف المستويات؟ وهذه ظاهرة متفشية، ومتصاعدة، ومرعبة، وقد عجزنا في حلها أو حتى الحد منها؛ لتظهر لنا الآن ظاهرة هروب الجامعيين وأصحاب الدراسات العليا، وبتلك الأعداد الكبيرة، كامتداد لها. إذن، لماذا يهرب هؤلاء بعد أن اجتازوا عقبات الثانوية والقبول الجامعي؟ لماذا يضيِّعون مستقبلهم؟ هل هو الواقع التعليمي نفسه وانعدام الأفق التوظيفي نفسه، اللذان يدفعان بطلاب المدارس إلى الهروب من التعليم؟ رُبما!! هل بسبب الظروف المالية والاجتماعية نفسها، خاصة وأن الكشف عن الظاهرة الجديدة قد تم في عام انهيار أسعار النفط عام 2014؟! رُبما!! وهل حادثة جامعة السلطان قابوس الأخيرة وراءها سبب متخفٍ للظاهرة الجديدة؟ ربما!! فالأسباب الأكاديمية الدافعة للهروب تحتل نسبة 22.5%، بينما تحتل الظروف الشخصية ما نسبته 30.5%، وهناك 22% لم تذكر أسبابها.
إذن، واقعنا التعليمي، التأسيسي، ومناخاته السياسية، لم تنتج الفشل في مراحله المتدنية والمتوسطة، بل يمتد الآن لمراحل متقدمة كذلك، لن ننكر الإيجابيات التعليمية، ولن نُقلِّل من الجهود الكبيرة المبذولة، لكن هذه السلبيات تحمل صفة الرعب لهدرها للطاقات البشرية والمادية، ولما لها من تداعيات على مستقبل الأمن الاجتماعي واستقراره، وعلى قدرة اقتصادنا على المنافسة؛ فالكل يتفق على دور التعليم في القدرة التنافسية للبلاد، وفي تحسين دخل الفرد، فلماذا لم يتغيَّر هذا الواقع حتى الآن أو يُساير الاهتمام الوطني بعملية صناعة اقتصاد متعدد المصادر؟! والكشف عن هذا التسرب الأكاديمي كبير العدد، قد جاء في توقيت مناسب جدًّا، ونوجه الشكر لمركز القبول الموحد على هذه الشفافية البناءة، وهى تدلل على أن صناعة المصادر الجديدة ستفشل إذا لم ترتكز على قاعدة وطنية للعلوم والتكنولوجيا، وستفشل كذلك في جانبها الاجتماعي؛ لأنَّ أغلبية أفراد المجتمع سيكونون من أصحاب الدخول البسيطة، عمال تحت كفاءات مستوردة. إذن، أين الخبرة الماليزية في تكوين الموارد البشرية؟ تساؤل لابد أن نطرحه بصوت عال ومباشر لجلسات العصف الذهني؛ فالتجربة الماليزية قد ركزت على العنصر البشري بنفس الأهميات المتتالية، والآن يُستعان بها لبناء اقتصاد قوي، فأين إستراتيجية تكوين مواردنا البشرية لكي تكون في مستوى الاستحقاقات المقبلة؟
فمن المعلوم بالضرورة أن القدرة التنافسية للدول، تعتمد على الدور الحيوي للموارد البشرية المبدعة، وكذلك قدرة المؤسسات على تعبئتها من أجل إنتاج المعرفة وتشكيل القاعدة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا. إذن، إلى أي مدى نصنع موارد بشرية مبدعة؟ وما عددها؟ وهل مؤسساتنا قادرة على التعبئة؟ ومن ثم ما حجم اطمئنانا على صناعة قاعدتنا الوطنية للعلوم والتكنولوجيا؟ فالتجارب الدولية الناجحة في آسيا كما في مناطق أخرى، كلها قد أعطت الأولوية لإنتاج الموارد البشرية ذات الجودة العالية، خصوصا في مجال العلوم والتكنولوجيا، أتدرون حجم نتائجها الإيجابية؟ لو أخذنا كوريا الجنوبية مثلا، فقد استطاعتْ أن تنتقل بمستوى دخلها الفردي من أقل من 100 دولار في بداية الستينيات، وهو أقل من الدخل الفردي في مصر وتونس والمغرب آنذاك، ليتجاوز 20 ألف دولار حاليا.
وماذا عن بلادنا؟ كلنا نعرف حجم الرواتب ومستوياتها في القطاعين العام والخاص بسبب ضعف تكوين مواردنا البشرية، صحيح أننا ننفق مبالغ مالية كبيرة على عمليات التكوين والتأهيل، إلا أنَّ العيب فيها: التركيز على رفع مؤشرات الولوج إلى التعليم فقط دون إيفاء الجانب النوعي، وكذلك توظيف الموارد البشرية المؤهلة علميا في مناصب بيروقراطية بسبب جاذبيتها المالية ومظهريتها الاجتماعية مقارنة بالوظائف العلمية، فهل تراعي إستراتيجية التعليم الجديدة هذه المشكلات التي تظهر لفوق السطح، وبالذات تسرب الآلاف من الجامعات والدراسات العليا؟ ينبغي أن يكون شغلها الشاغل تكوين قاعدتنا الوطنية التقنية التي يحتاجها اقتصادنا الوطني، وأن يتزامن تنفيذها مع تنفيذ البرنامج الوطني للتنويع الاقتصادي، ويكون لها برنامج تنفيذي مماثل؛ وذلك حتى نتجنب فشل سياسات تكوين مواردنا البشرية، فذلك الهروب العددي الكبير يكشف ضبابية المستقبل العلمي لبلادنا، وعلى مجلس الدولة المكون من مجلسي الشورى والدولة تشكيل فريق عمل وطني موحد لدراسة أسباب هذا الهروب، وإرجاع الهاربين إلى جامعاتهم، والعمل على عدم تكراره مستقبلا. لا يُمكن أبدا السكوت على هذه الظاهرة!!!