من وحي الذاكرة (8)

 

علي بن كفيتان بيت سعيد

لا زلت أذكر عندما أتت القوات المسلحة وفتحت الطريق الترابية إلى قرانا المُتناثرة في الريف، فكانت سيارة النيسان جنير الزرقاء للعم سعيد سالم – أطال الله في عمره – هي وسيلة نقلنا الأولى إلى المدرسة؛ كم كنّا نتباهى بركوبها بينما يتفنن العم أبو أحمد في مهارات القيادة التي لا تخلو من تعليمات صارمة عند الركوب في الصندوق الخلفي، حرصًا منه -حفظه الله- على حياتنا لأنَّ الطريق وعرة والسيارة في أغلب الأحيان مكتظة بالطلبة والركاب الفضوليين من الرعاة الذين كانت إحدى هواياتهم في تلك الأيام ركوب السيارة وزيارة مركز الفرقة يوميًا وتتوف السيارة وسط الطلعات الصعبة بينما يقوم المعاون الريفي الموجود في كبينة القيادة بوضع الأحجار تحت العجلات على عدة مراحل حتى نصعد العقبة، إنّها رحلة معاناة يومية ولكنها بكل المقاييس أفضل من السير على الأقدام، إذا لم تخني الذاكرة فإنّ أحد الركاب الدائمين معنا حرص على حمل المسجل معه ليشغل لنا مرة أغاني الدبرارت بصوت الفهد ومرات أخرى أغاني النانا بأصوات نسائية شرقية شجية، ولسوء الحظ طاح المسجل في أحد الأيام بينما السيارة تمخر عباب الطريق وخلفها سحب الغبار الكثيف ومن يومها لم نر الرجل ولم نسمع مسجله ثانية.

ستظل سمفونية النانا تعزف في ربوع ظفار روح الإخاء والحب الذي لا ينتهي، وسنبقى نُحاكي فن الدبرارت الذي أبدعه محاد الفهد – رحمه الله – ورسم لنا من خلاله ملاحم أدبية لا تنسى فهذا الأديب الكبير ظل يصدح بحنجرته الشجية لعدة عقود وأصبح ملهماً للأجيال، يعالج من خلال كلماته التي أصبح يرددها الجميع ومن مختلف الأعمار قضايا اجتماعية واقتصادية، ودينية ولم ينس كذلك العاطفة التي طالما كانت حاضرة فكم أبكانا الفهد عندما يرثي شيخاً أو بطلاً، ولا شك أنّ الرجل يعتبر إحدى الشخصيات الوطنية البارزة التي ظلت تدعم روح الوحدة الوطنية خلف القائد المفدى – حفظه الله- فكان يوظف كل هبات ظفار من جبال، وأشجار، وسحب، وظلال، وعيون ... وغيرها في شعره وكأن كل تلك النعم هي معين الفهد الذي لا ينضب. لا زلنا نتذكر الأمهات والجدات وهن يجلسن تحت ظل شجرة التين ومعهن المسجل القديم (أبو كاسيت) ويستمعن لفن الدبرارت بصوت الفهد، وكذلك الرجال يتحلقون في المساء حول ذلك المذياع لسماع جديده، وحتى نحن الأطفال نخطف المسجلات لنستمع إلى الكلمات والحكم والعبر التي تصوغها هذه الهامة الأدبية العظيمة.

لقد ظل الفهد بطل جميع حلقات البرنامج التلفزيوني (البرنامج الريفي) الذي يُقدمه المرحوم أبو نبيل فكان هذا البرنامج ينتظره الجميع بلهفة فهو برنامج موجه لأبناء ريف ظفار بلهجتهم المحلية وفي كل حلقة يستضيف أبو نبيل رجال من مُختلف المناطق الريفية ويكون محور الحلقة علاج مشكلة اجتماعية ظهرت في هذا المجتمع، ففي إحدى الحلقات تمَّ نقاش عزوف الأبناء عن مساعدة أهاليهم في رعاية المواشي، وفي آخر الحلقة يكون الدور للأديب محاد الفهد ليتحف الجميع بروح مرحة وبكلمات ذات دلالة ومغزى عظيمين عن نفس القضية وعلاجها.  

يمر الزمن وتظل ظفار بروابيها الخضراء التي تتجدد كل عام تمثل روح الإلهام لمن تعود على أن تحبسه عتمة الضباب، وأن يتبلل جسده لمدة ثلاثة أشهر في ظل صراع مرير للبقاء، فهم يرعون ويزرعون ومن كدح أيديهم يقتاتون وفي المساء يدخلون في سبات عميق من قهر التعب ومع ذلك أجسادهم قوية وأروحهم هنيئة وكرمهم فطري في هذا الوقت المر كمرارة الحرمان الذي عاشوه، الكل ينتظر الصرب (موسم ما بعد الخريف) ليجمع زرعه، ويصدر سمنه، ويجني عسله. هؤلاء هم الريفيون رعاة الإبل، والأبقار، والأغنام الذين لا يعرفون الكلل ولا الملل ولم تجد البكتيريا ولا الفيروسات مكاناً لها في أجسادهم الخشنة وأرواحهم الطاهرة.  

منذ دببنا على الأرض تعلمنا منهم كل الصفات الحميدة، تربينا على طيب الإخاء، وحسن المعشر، والإحسان إلى القريب والبعيد، وغرسوا فينا الصبر، وتجنب كل ما هو سيئ أو مخل بالآداب العامة، كما تعلمنا في مدرستهم ألا تبيح سراً، ولا تفضح أمرًا. كان معظم هؤلاء المربين العظماء أميون لم يتعلموا لا في المدارس ولا الجامعات كانت مدرستهم هي الحياة التي جلدتهم بحلوها ومرها فأخذوا التجارب وأصبحوا خبراء في شؤونهم العامة فاستنبطوا لأنفسهم العرف وتوافقوا عليه وحكموه بينهم فعاشوا محبون للحياة بكل ألوانها.

تمنيت أن يكون هناك ملتقى أدبي يُلقي الضوء على الأدب الريفي وإسهامات رواده وعلى رأسهم الشيخ محاد الفهد كشوب كما تمنيت أن يُعاود بث البرنامج الريفي عبر إحدى القنوات العمانية حفاظاً على الموروث وتوعية للسكان عبر تسليط الضوء على القضايا الاجتماعية الهامة.     

حفظ الله عمان وأدام على جلالة السلطان نعمة الصحة والعافية .

 

alikafetan@gmail.com