سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟ (46)

القيادة

 

 

د. صالح الفهدي

 

يضربُ ستيفن كوفيSteven Covey  مثالاً يفرّقُ فيه بين القيادي والإداري فيقول: تخيّل أنَّ شركة تقطيع أشجار أتت بمئة عامل ليبدأوا في قطع الأشجار في غابة ما. وبدأ مُنظم العمال يوزّع العمال في الغابة، ويُرتب مواقعهم، ويُحدِّد لهم ساعات العمل وساعات الراحة. وبعد العمل لأكثر من يوم أتى مُدير الشركة واعتلى قمّة أعلى شجرة في الغابة ليُراقب سير العمل، فكانت المفاجأة أنّه صاح بأعلى صوته: إننا نقطع في الغابة الخطأ، ليست هذه هي الغابة التي أتينا لنعمل فيها..!

مُنظم العمّال في هذه القصّة البسيطة هو الإداري الذي يهتم بتوزيع الموارد وتنظيم العمل، ولكن مدير الشركة يُمثل القيادي الذي يُعنى بتحديد المسار، وترتيب الأولويات، ومُتابعة الاستمرار في الطريق الصحيح، وياالله، كم نحن بحاجة إلى قياديين..!!"

السؤال الذي يجبُ أن نطرحهُ بكل مسؤوليةٍ وأمانة هو: هل نحنُ بحاجةٍ إلى قياديين أم إلى إداريين أكثر؟! أمّا ستيفن كوفي فيقول: إننا بحاجة إلى القياديين أكثر من حاجتنا إلى الإداريين. ويستأنس بمقولة بيتر دراكر Peter Drucker "الإدارة هي فعل الأشياء بشكل صحيح، بينما القيادة هي فعل الشيء الصحيح".

ما أحوج أمّتنا إلى القيادي البارع الذي يتحلّى بميزات القيادة الطموحة، المتوقدة التي تميّزه بحسن التَّصرّف فيما يوضع على كاهله من مسؤوليات، وما يقع في نطاقه من مواردَ.

نحنُ بحاجةٍ إلى القيادي المُخلص الذي يضعُ مصلحة وطنهِ في الإطار الأسمى، والنطاقِ الأوسع، والمدى الأرحبِ، والمنظور الأبعد. فلا يقدّم المصلحة الضيّقة فوق الوطنِ، ولا يُعلي المطمحَ الشخصي فوق الغايات العليا.

نحنُ بحاجةٍ إلى القيادي الذي يُحسنُ اتخاذَ القرار، ويسبرُ أبعادهُ قبل اتخاذه، ويتحمل نتائجه بعد اتخاذه. قياديٌ مقدامٌ لا يرى في السكونِ مأمناً له، ولا في الركودِ مخلداً للراحة. قيادي مُبادرٌ للتغيير يقودُ مجتمعه نحو التقدّم مستفيداً بكل ما تجودُ به العلوم العصرية من هِباتٍ وإمكانات تُسهم في الإسراع بعجلة التنميةِ وتسهيلِ الأداء. يقول Steve Jobs: "التجديد هو ما يُميز القائد عمن يتبعه".

نحنُ بحاجةٍ إلى القيادي المُلهم للآخرين، الصانع للقادةِ، بما يكلّفهم إيّاهُ من مسؤوليات، وما يفوّضهم به من واجبات، وما يحفزّهم عليه من مُبادرات التحديث والتجديد. يقول Larry Page المدير التنفيذي لجوجل:"عملي كرئيس هو التأكد من أنَّ الجميع في الشركة لديهم فرص كبيرة، وأنهم يشعرون أن وجودهم له أثر ملموس ويعود بالخير على المجتمع".

نحنُ بحاجةٍ إلى هؤلاءِ أكثر من الإداريين الذين لا يقودون وإنّما يقادونَ من قِبل آخرين، فتركض بسببهم المنظمات، وتخملُ المؤسسات، وتتبلّدُ الهيئات..!

إنني حين ألتمسُ من كل مسؤولٍ ملامح القيادةِ أقول له بدون مواربةٍ: إننا بحاجةٍ إلى آخرين مثلك، أولي عزيمةٍ، وأصحاب قرارٍ. أقول ذلك بيقين عميق أن القيادة هي فن اتخاذ القرارِ، وفطنةُ النفس، وقوة العزيمة. الوطنُ لا يتحرّك قدماً إلاَّ بالقياديين الذين أضحوا من الدُّرر النفيسةٍ التي تُنضدُ في العقودِ المبهرة على النحور والتيجان..!

نحن بحاجةٍ دائمة إلى القيادي القدوة الذي يرى فيه الآخرون مثالاً يُحتذى به في حمل الأمانة، وخدمة الواجبِ بتجرّدٍ تامٍ من أيّةِ مآربَ لا تتناغم مع مصلحة الوطن. في منتصف مايو من عام 1978، خاطب جلالة السُّلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- كبار رجال الدولة قائلاً:"عليكم جميعاً أن تكونوا قدوة ومثلاً يحتذى، سواء في الولاء لمواظبته على عمله واحترام مواعيده، أو في سلوكه الوظيفي داخل مكان العمل أو خارجه، وفي حسن الأداء وكفايته".

توسّم مزايا القادةِ في البشرِ ليس صعباً، فإرهاصات القيادةِ تظهرُ في بعض الأفرادِ، في أمورٍ يسيرةٍ يسهلُ الحكمُ فيها فيما يمتلكون من مواهب، ويتمتعونَ من قدرات. أمّا أن تُعرف تلك السمات فلا يُلقى لها بالاً فذلك إخلالٌ في حقِّ الوطنِ، وإهمالٌ في واجباته السامية. وفي هذا الشأن يقول Sun Tzu :"القائد الذكي، هو الذي ينظر إلى حصيلة القدرة المجتمعة، ويأخذ بعين الاعتبار المواهب الفردية، ويستخدم كل رجل حسب قابليته ولا يطلب الكمال من غير الموهوب".

لقد تفكّرتُ وأنا أقرأ كتاب "حياة في الإدارة" للراحل الدكتور غازي القصيبي رحمه الله، تفكّرتُ في قصّةِ إقالتهِ من وزارةِ الصحّة عام 1984م لوشاية الواشين، وإيغارِ المغرضين لدى الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله، فنشر قصيدته التي عنونها "رسالة المتنبي الأخيرة إلى سيف الدولة" وفيها يُعاتبُ الملك وهو عتابٌ يُعدُّ تجاوزاً لا يغتفر في بعض الأعراف..! لكن ما أعجبني هو تجاوز الملك لهذه الحادثة بعد زمنٍ قصيرٍ تقديراً منه لهذه القامة القيادية العظيمة للدكتور غازي القصيبي فأعاده في مناصب عليا حتى توفّاهُ الله..!

لا يُمكنُ إذن التفريط في القيادات العظيمة التي تعدُّ من أعظم ثروات الوطن بل هي أعظمها على الإطلاق لأنّ التفريطَ فيها يفسحَ المجال للإداريين كي "يتقمّصوا" دور القياديين، وهو تقمّصٌ مشوبٌ بالزيفِ، محفوفٌ بالتزلّف، مزخرفٌ بالمظهريةِ الخادعة..!

فلا يحسبُ نفسه قيادياً ذلك الذي يُقصي كل صاحبِ قدرةٍ، وسمةٍ قيادة..! لا يحسبُ نفسه قيادياً ذلك الذي يتعجرفُ في قراراته، ويتنطّعُ في أوامره، ويتعالى في أخلاقه..! لا يحسبُ نفسه قيادياً ذلك الذي يتباهى بما أنجزَ قولاً ولا يُرى له فعل..! لا يحسبُ نفسه قيادياً ذلك الذي يتشدّقُ بالوطنية وقيمها العليا وهو يتغوّل في ميادينِ المصالحِ الشخصية..! لا يحسبُ نفسه قيادياً ذلك الذي لا يتقنُ فنّ القرار، ولا يحسنُ التصرّف، ولا يجيدُ الثقة، ولا يعرفُ التفويض، ولا يترسّم المستقبل، ولا يقدّر الكفاءات..! فما ذلك إلا إداريُّ هزيلٌ لا يصلحُ حتى لقيادةِ نفسه..!!

مجتمعاتنا بحاجةٍ ماسة إلى قياديين أصيلين يقودونها نحو المستقبلِ بفكرٍ مستنيرٍ، وعزمٍ قديرٍ. هؤلاءِ هم أساسُ البناءِ، وقادةُ التغيير، وبناةُ الأمجاد. أمّا لمن يسأل: فأينَ هم؟ أجيبُ: أولئك لا تخطئهم البصائر، ولا تعمى عنهم النواظر، لكن إن آمنت بهم الضمائر، وأيقنت بهم السرائر..!  .