نحن شعب بلا ذاكرة

 

علي بن مسعود المعشني                                                   

في يوم من أيام عام 1995م، كنت أنا والصديق العزيز المُناضل عبد العزيز بوتفليقة في بهو فندق شيراتون بالدوحة، وكان على بُعد أمتار منِّا شابان عربيان في مُقتبل العُمر عرفت من لهجتهما بأنَّهما من الجزائر، فدفعني الفضول لسؤالهما عن بوتفليقة المُناضل والقامة السياسية والدبلوماسية التي شكَّلت هوية وعنفوان وحيوية سياسة ودبلوماسية دولة الاستقلال الجزائرية؟ فكانت الصدمة كبيرة لي حين أجاب الشابان بنفي معرفتهما بالمناضل عبد العزيز أو الوزير والمسؤول والدبلوماسي اللامع. بكل تأكيد أتمنى اليوم معرفة شعور الشابين بعد أن اعتلى عبد العزيز بوتفليقة سُدة الرئاسة في بلده منذ عام 1999م ولغاية اليوم.

في عام 2006م، كنت في زيارة سياحية عائلية لسوريا وكُنا في مدينة حماة، فسألت أحد الشباب المارين عن شارع شُكري القوتلي كونه في قلب سوق المدينة، فلم يعرفه وحين سألته عن شارع 8 آذار، أشار بيده ودلني عليه، فالشارع يحمل الاسمين معًا، حينها سألت الشاب إن كان يعرف من هو شكري القوتلي الذي يحمل الشارع اسمه؟ فقال لي: لا أعرف!! صعقت من الإجابة، وقلت له: ألا تعرف الرئيس الزعيم العربي السوري شُكري القوتلي مُحقق الوحدة مع مصر والمواطن العربي الأول!؟ فأجاب بالنفي، شعرت بالمرارة ولكنني كُنت مجبرًا على العثور على فندق يأوينا خاصة وأن الليل يداهمنا وتدفق السياح العرب واللاجئين من لبنان كان بأعداد كبيرة في ذلك العام، فشكرته وانصرفنا.

صدم ذات يوم الرئيس العراقي الأسبق عبد الرحمن عارف بسيارته طفلة صغيرة بأحد شوارع بغداد فأوقف سيارته وحملها حيث تبين له أنَّ إصابتها خفيفة جدًا ولكنه أصر على حملها للمشفى، وفي المشفى طلب الطبيب المُناوب بطاقته الشخصية ثمّ سأله عن مهنته؟ فأجاب: رئيس جمهورية العراق سابقًا، فصُعق الطبيب الشاب لعدم معرفته بهيئة أو هوية رئيس لبلاده مازال على قيد الحياة!!.

في عام 2008م، قررت إعداد كتاب بعنوان "رجالات عُمان 1970 – 2010م" تحتوي فكرته على صور وسير مختصرة لجميع الشخصيات التي تولت مناصب تنفيذية في الحكومة، مع رصد مُبسط للمؤسسات والوحدات الحكومية التي أنشأت ثم دمجت أو ألغيت، وبما يخدم ويُعبر عن نشوء وأطوار الدولة العصرية في السلطنة وحاجات التنمية، وهو مشروع شبيه إلى حدٍ كبير بالجهد الذي بذلته مشكورة وزارة الخدمة المدنية وأصدرته قبل عامين تقريبًا ليُشكل دعامة مُهمة للذاكرة الإدارية في السلطنة ومرجعًا مهماً للباحثين والمعنيين والمهتمين.

كنت آملُ لمشروعي أن يرى النور بالتوافق مع الذكرى الـ 40 للنهضة المباركة، ولكنني واجهت الكثير من الصعاب وعدم توفر المادة المطلوبة بيسر نظرًا لعدم تفهم أو تجاوب العديد من المؤسسات الرسمية في توظيف محفوظاتها للباحثين والمهتمين، والأهم من كل ذلك هو ما تبين لي لاحقًا بأنّ المشروع ذو طبيعة مؤسسية لا يُمكن أن يقوم به فرد لما يتطلبه من متابعة مع مؤسسات وأفراد للاستفادة من ذكرياتهم وذاكرتهم، وطباعة وتنسيق وتصنيف وأرشفة ...إلخ، فتوقفت عن السعي واكتفيت بحفظ ماحققته في أوراقي الخاصة.

لعلي لا أُبالغ إذا قُلت بأنني أغمط أشقائي في السودان والمغرب وموريتانيا حين يتحدثون عن تواريخ ورجالات أقطارهم بصور وكأنّها مواد مُقررة على جميع فئات الشعب رغم أنَّ أغلبها مروي، ورغم أعراض العولمة وأخواتها وانتزاعها للكثير من الطباع والاهتمامات للشعوب العربية حتى أصبحنا نُطلق على زمن الأجيال السابقة ونصفه بزمن "الطيبين" كرثاء ومواساة لحالنا في زمن بلا لون أو طعم أو هدف أوقضية أو رائحة .

بل ومايُبهرني في الأشقاء الموريتانيين أنّهم لايتوقفون عند سرد سير رجالاتهم في تاريخهم المعاصر والمفاصل التاريخية لبلادهم، بل يعلمون حتى أدق تفاصيل عائلاتهم وأقاربهم اليوم في تجلٍ واضح للتمازج والتداخل المجتمعي القوي لبلاد شنقيط رغم زحف العولمة واختلال الأولويات في البنية المجتمعية الموريتانية اليوم كغيرها من المجتمعات العربية التي أصابتها أعراض المدنية وتبعات وضريبة تشكل الدولة العصرية وضريبة لغة المصالح والأحادية الاجتماعية .

لاشك عندي أنَّ الأمثلة أعلاه لا تخلو من هنات دولة الاستقلال العربي والتي أهملت كثيرًا بناء الوجه الفكري للدولة وانهمكت إلى النخاع في بناء الوجه التقني للدولة بوعي وبلا وعي، فأنتجت الزبونية السياسية وثقافة الإقصاء والتنابز والتجهيل والتجاهل لرموز وحقب تاريخية حرمتنا من فضيلة التراكم الخبراتي والتجاربي وجعلتنا نبتدئ من أول السطر بعد كل عملية تغيير وفي كل حقبة.

لهذا أنهكت الذاكرة وتشتت وفقدنا بوصلة الهداية والرشاد لأننا نسير في طرق موحشة بلا زاد معرفي ولا تجارب تقينا من شرور الأعداء وتكرار الأخطاء وتحصننا من الانبهار والانقياد الأعمى وأعراض دعشنة الفكر.

ونحن في سلطنتنا الحبيبة في أمس الحاجة إلى تشجيع الباحثين في شتى صنوف المعرفة، والباحثين الاجتماعيين على وجه الخصوص وتفريغهم من وظائفهم وطباعة ونشر أعمالهم حتى لا نبقى شعب بلا ذاكرة موثقة، ونضفي العلمية والتحليل المنطقي على مظاهر وظواهر لا تحصى من حياتنا في الفنون والآداب والسير والأعلام والعادات والتقاليد الاجتماعية والاقتصادية والزراعية والطبابة والبيطرة وغيرها، والتي بدأت تنقرض حتى شفاهة، نتيجة تغييب الموت لجيل سابق يعلم ومارس تلك المهن وعايش تلك العادات والتقاليد بتأصيل علمي أحيانًا وبلا تأصيل أحيانًا كثيرة، وهنا يأتي دور الباحث المُعاصر لتقصي الحقائق والبحث عن أجوبة علمية ومنطقية لتلك المظاهر والأدوات التي نتوارثها دون وعي منِّا بأغلبها، علمًا بأننا لا ننكر أننا قد قطعنا شوطًا لابأس به نحو توفير أدوات البحث من توثيق إعلامي (برامج إذاعية وتلفزيونية) لأوجه كثيرة من حياة العمانيين ومظاهر ومفردات من الطبيعة والتاريخ وغيرها، ودور مركز عُمان للموسيقى التقليدية في حفظ وصون الذاكرة الفنية الطربية والطبوع الفنية، ثم أتى مشروع الموسوعة العمانية ليضع أمام القارئ والباحث جملة لا تُحصى من المفردات والمعاني والتعريفات من حياتنا العُمانية المعاصرة والسابقة، يضاف إليها موسوعة السلطان قابوس للأسماء العربية، وإشهار مجلس البحث العلمي وقبله مركز الدراسات العُمانية بجامعة السلطان قابوس يضاف إليها جهود بعض البحاثة من غير العُمانيين في تسليط الضوء على جوانب أو مفردات طبيعية أو إنسانية من السلطنة. فجميع تلك الجهود عبارة عن تجميع وتوثيق أصم – إن جازت التسمية والتشبيه – ودور الباحث المواطن المؤهل هو استنطاق تلك المفردات والغوص في أعماقها لسبر جميع أطوارها وأبعادها ثم تقديمها للذاكرة الشعبية خالية من الاجتهادات المنحرفة والأساطير والخرافات بعد إخضاعها للمنهجية العلمية والعقل والمنطق بعين عُمانية خالصة.

قبل اللقاء: "من يولدون في العواصف، لايخشون الرياح"

وبالشكر تدوم النعم

Ali95312606@gmail.com