حشرها قريب (3)

 

 

خالد الخوالدي

نُواصل الحديث، مركِّزين اليوم على قضية مُهمَّة وحسَّاسة، ولها تأثير كبير على الفرد والمجتمع والدولة بصورة عامة، وهذه القضية هي "الرشوة"، والتي بدأتْ تنتشر -وبشكل كبير- بعد أنْ كُنَّا نَعِيْب على بعض الدول التي لا يستطيع أحدهم العَيْشَ فيها إلا بممارسة هذا المرض العضال.

ولن أتطرق إلى تعريف الرشوة وما هي؛ فالأغلبية تعرف أنها آفة مجتمعية ما إن تدخل في أوساط مجتمع أو مؤسسة أو كيان إلا دمرته وقوَّضت أركانه، وإذا ما انتشرت وتمادت في الانتشار فإنَّ حشرها قريب بلا شك؛ فهي جريمة على درجة كبيرة من الخطورة حيث تعمل على النخر في قوام أي دولة حتى إذا ما تمكنت منها أسقطتها. وانتشارها يضعف ثقة الأفراد في السلطة القضائية والعامة ونزاهتهما، ويؤدي إلى الإخلال بالمساواة بين المستفيدين من الخدمات وإثارة الأحقاد والضغائن والتباغض بينهم، ورواج الكيد والغش وكثرة السماسرة المتاجرين بحقوق الناس، حتى يغدو المجتمع غابة يكون البقاء فيها للقادرين على الدفع فقط، وللذين يتقنون الغش والخداع.

وما حادثة الرشاوى التي اكتُشفت في صفقات النفط والغاز والصناعات البتروكيماوية إلا دليل واضح وجلي على خطورة هذا المرض العضال؛ حيث تمكَّن من لا يستحق من إقامة ما لا يعرف ولا يدرك ولا يخصه من قريب أو بعيد، وأصدقكم القول بأنَّني كنت أسمع وأرى أخطاء بتنفيذ مشاريعنا، ولكن كنت أعتقد أنها أخطاء بشرية غير مقصودة، وألتمس لهم العذر وأحسن الظن، ولكن وبعد ما بات يتكشف يوما بعد آخر، اتضح أنَّ السبب هو الاختيار غير المناسب للمنفِّذين للمشاريع، خاصة تلك الحساسة؛ مثل: المصافي البترولية والمصانع الدقيقة، والتي تحتاج إمكانيات غير عادية في إقامتها، والاختيار غير المناسب سببه بالتأكيد الرشاوى والوساطات والتكتلات والشلل والأحزاب واللوبيات التي تجتمع فيما بينها لتقسيم الكعكة بالتساوي أو بالدور.

واخترع هؤلاء الكبار والصغار منهم أسماء ونعوتًا متنوعة للرشوة؛ فالبعض سماها "هدية"، والبعض سماها "دهن شوارب"، والبعض سماها "خبز وعسل"...وغيرها من الأسماء التي ما أنزل الله بها من سلطان، ومهما تعدَّدتْ الأسماء وتنوَّعتْ، إلا أنَّهم يُدركون يقينا أنها رشوة هدفها تمرير مناقصة معينة أو معاملة غير قانونية في مؤسسة معينة، ولا يعتقد أي منكم أن هؤلاء هم أفراد فقط، بل هناك تجمُّعات على مستوى عالٍ من الذكاء والفطنة والدراية والخبرة والحنكة يجتمعون ويتناقشون في الأساليب التي تكفل لهم الظفر بأي أمر غير قانوني ويدمرون أي أحد يقف في وجه تطلعاتهم وطموحاتهم، ويساعدهم في تنفيذ خططهم للأسف أشخاص منا نحن أبناء المجتمع الموظفين في المؤسسات الحكومية والخاصة، مُتوهِّمين أنهم يُسهمون بذلك في بناء الدولة، وهم لا يدركون أنهم يدمرونها.

والراشي والمرتشي يُدركان إدراكا تاما العقوبة الإلهية التي توعَّد بها الله سبحانه لمن أسهم في تنفيذ هذه الجريمة الخطيرة والكبيرة؛ فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي والمرتشي والرائش"، واللعن هو الطرد من رحمة الله ودليل سخطه، والرائش هو السفير بينهما أو الوسيط، وقد قال ابن مسعود: الرشوة في الحكم كفر، وهي في الناس سحت.

وإذا كانت الرشوة بهذه الخطورة وبهذا القبح، فعلى المشرِّع أن يُغلِّظ العقوبة لمن يرتكبها، وعلى المجتمع أن يتدارسها من خلال زيادة الوعي الاجتماعي ومعرفة مخاطرها على نظام المجتمع وزيادة الوازع الديني والأخلاقي، وعلى الدولة أن تبذل قصارى جهدها في القضاء عليها والقضاء على كلِّ من يُقدِّم مصلحته الشخصية على المصلحة العامة، وزيادة الرقابة الفعلية على الموظفين، وتوظيف موظفين وهميين لكشف المرتشين، وتطبيق مبدأ: من أين لك هذا؟ وإنزال العقوبة الشديدة بمن تُسوِّل له نفسه تقديم الرشوة أو استلامها أو المساعدة على تمريرها.. ودُمتم ودامتْ عُمان بخير.

Khalid1330@hotmail.com