د. صالح الفهدي
كاد السبّاح الأمركي الأسطورة مايكل فيلبس Michael Phelps أن ينتحر عام 2014 ، بعد أن انهارت نفسه حين طفحت بالمشكلات النفسيّة والإجتماعية، رغم الإنجازات التي رصّعت إسمه من ذهبٍ في تاريخ الأولمبياد. يقولُ عن نفسه: "لم آبه لكل ذلك، فقد فقدت هويّتي الذاتية، فقدت تقديري وقيمتي لذاتي، شعرت بأن العالم أفضل دون وجودي، وقررت بأنَّ أفضل شيء أفعله هو إنهاء حياتي"..!!. لكنه استعاد مجده وتألقه في أولمبياد ريو البرازيل ٢٠١٦ حيث يواصل حصد الميداليات الذهبية إذ وصل رصيده الإجمالي من الميداليات الى 22 ميدالية منها 18 ميدالية ذهبية، والسبب في ذلك كتابٌ أهداهُ إيّاه صديقٌ له عنوانه"الهدف وراء الحياة Purpose Driven Life " للمؤلف Rick Warrenالذي يقول عنه مايكل فيليبس أنه أنقذ حياته فعرف الهدف من وجوده وقيمته في الحياة، ودفعه ذلك للإستمرار في حصد الإنجازات ومواصلة العطاء بروحٍ عاليّة الأداء.
يقول مؤلف الكتاب الذي اطلعتُ عليه في بداية حديثه:" هدف الحياةِ أكبرُ بكثيرٍ عن الطموحات الشخصية، أو راحة البال، أو السعادة. أبعد بكثير عن الأُسرةِ، والوظيفة، والأحلام، والأماني. إذا أردت أن تعرفَ لماذا خلقتَ في هذا الوجود فإن عليك أن تبدأ مع الله، فقد خلقت بقدرته من أجل غايته الربانية".
الدرس الحقيقي الذي يجب أن يتوقف عنده الجميع هنا خاصّة الشباب هو "العلاقة مع الله"..! هذا الذي افتقده الغربيون في عمومهم، وضلَّ عنه الكثير من المسلمين في مضمونهم..! العلاقة مع الله تعني السلام الداخلي، التوافق مع الوجود، استيعاب الحياة بأفراحها وأتراحها، التناغم مع الكون. العلاقة مع الله تنتج تقدير الذات، واحترامها، تنتج السعادة الداخلية، والراحة النفسية، تنتج العلاقات السويّة بالآخرين، وبالأشياء من حولنا. وفي المقابل فإنَّ فقدان العلاقة مع الله يدفع الإنسان مع كل ما يحققه في حياته من شهرة، وثروة إلى أقصى درجات اليأس والإحباط فتكون مسوغاً للإنتحار، وهذه نتيجة طبيعية لقوله تعالى" (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) [طه: 124-126]. إذ يملأُ الشيطان الفراغ فيجرُّ الإنسان عبر التزويغ، والتمويهِ، والخداعِ من خلال إثارة الشهوات، وإيقاد الرغبات، فتتراكم في نفسه المشكلات التي تضيقُ معها الحياة، ولا يخيّل إليه من حلٍّ لأجل الهروب منها، والفكاك من قيودها سوى بالإنتحار..!
هذا درسٌ للشبابِ الذي ضعفت صلته بالله، وأصبحَ كلَّ همّه في تحقيقِ آمالهِ الشخصية، وإنجاز طموحاتهِ الذاتية. والمؤسف أن الكثير من دورات تنمية الذات، وتحقيق الأهداف تتركزُ حول هذه الأهداف الشخصيّة التي تعجزُ في نهايتها عن توفير السعادة النفسية للإنسان لأنها مبتورة العلاقة مع الله. دوراتٌ تفتقدُ إلى الأساس الحقيقي لها لا خيرَ فيها ولا فيمن يقدّمها مالم يكن أصلُها ومستهلّها العلاقة مع الله..! هذه هي بذرةُ العروة الوثقى التي تكون نتيجة التمسّك بها كفالة الله وتحصينه لمن آمن به:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"(البقرة/257).
هذا أمرٌ لا مراءَ فيه، وللمجادل أن يتتبّعَ الأعداد الكبيرة للمنتحرين في الغرب، خاصّة من المشاهير..! والسبب هو الفراغ النفسي الذي سببه القطيعة مع الله القائل: "إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ"(يوسف/87)، في الوقت الذي يفتحُ فيه سبحانه البابَ مشرعاً للعودةِ إليه سبحانه:"قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ {الزمر:53}. وفي المقابل يحذّر المنتحرين من عقوبة قتلهم لأنفسهم بقوله (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) [النساء: 29-30]. هذه علاجاتٌ قرآنية لا تتأتى إلاّ بالقربِ من الله، وتوثيقِ الصلةِ به.
إن النظم التربوية والتعليمية الناجحة هي التي تبدأ بالإنسان من الأهداف العليا الربانية لحياة الإنسان على ظهرِ هذه الأرض، وليس بسؤاله عمّا يريدُ أن يتخصص في المستقبل..! أما حين يترك الإنسان ليدور حول سؤال محوري عن طموحاته الشخصية، وأهدافه، وأمنياته، ومستقبله دون أن يؤسِّسَ ذلك على علاقته بالله سبحانه فذلك هو التيه الذي يجرُّ الفرد إلى طرق الضلالة والزيغ والخراب..
شبابٌ أصبحوا لا يفكرّون في هذا الأمر، ولا يجعلون له قيمة عليا في حياتهم، حتى أنك تجدهم وقد سلخ الواحدُ منهم نفسه من العبادات فلم تعد لها قيمة في حياته، وإنّما أصبحَ لاهياً، لاعباً، تسألهُ عن أقوى الدوريات في العالم يجبكَ فوراً..! تسأله إن كان لديه مقاطعَ مسليّة يستعرضها مسروراً..! تطلبُ إليه أن يتسكّعَ معكَ في مركزٍ، أو سينما، أو مقهى يوافقك على الفور..! إنّما تطلبُ إليه أن يذهب للصلاةِ معك يتثاقل وكأنّما غُلّت أقدامه بالقيود..!!
لا يزالُ سؤالي لكل من يستشيرني في مشكلةٍ ما: هل تصلّي؟ فأجدُ هنا نقطة الخلل، ومكمنُ الخطل..!! الصلاةُ هي آخرُ ما يتعلقُ به الإنسان من حبالٍ روحيةٍ بالله، فهي العاصمُ من الزلاّت إن أحسنَ الإنسانُ فهم أدائها، والقيامَ بفرضها. ويؤسفني القولَ أن البعض من الشباب لا يولون للصلاةِ اهتماماً بل صارَ يتشاغلُ عنها، فيلهيه الشيطانُ حتى يمرّغهُ في أوحالِ الخطيئةِ..!. هؤلاءِ الشباب لن يصلوا إلى أي غاية سامية، ولن يحققوا أي نجاح حقيقي ما لم يكن ذلك كلّه مرتبطاً بالعلاقة مع الله. ما قيمة الإنجازات الشخصية، والنجاحات الفردية، والأمجاد الذاتية، وتحقق الآمال، والأهداف التي تخلو جميعها من الهدف الأكبر لخلق الإنسان في الوجود؟!.
الغريبُ أن الله يحضرُ في قلوب الكثيرين عند النوائبِ والمحن ويغيبُ في لحظات الرخاء والأُنس..! فإذا وقعت المصيبة تمتمت الشفاهُ بذكرِ الله، والإستنجادِ به، وإذا انجلت الغمّة نسيت ذكر الله ..! أوليس ذلك أعظم أنواعِ الجحود، وأسوأ أصناف النكران؟!
إن توطيد العلاقات بالله تنتجُ ما لا يتصوّره الإنسان، وما لا يتخيّله عقله. يروى الدكتور مصطفى محمود رحمه الله قصّة مؤثرةً عن إمرأة فرنسية في الستين من عمرها حين قابلها عام 1968 في مدينة الرباط بالمغرب قالت له: أنها كانت ضمن فوج سياحي فرنسي، وفي آخر ليلة قبل السفر رأت في منامها أن شخصاً يجلّله البياض ويكسيه مهابة، يناولني القرآن فصحوت من النوم وأنا أرتجف، لكنني قررت بأنها إشارةٌ من الله وأن عليّ أن أتخلّفَ عن الفوج السياحي وأدرس الإسلام واللغة العربية، فتلقيتُ اللومَ الشديد من الذين رافقوني في سفري وحاولوا إثنائي عن قراري لكن دون فائدة. مكثتُ بعدها عدة سنوات اعتنقت خلالها الإسلام وتعلمت العربية، ثم أُصبت بسرطان الثدي الذي أكّد لي الطبيب أنه قد انتشر وصار في مرحلةٍ متأخرة ولا شفاءَ يُرجى منه..! تقول: تزامنَ ذلك مع وصول الوفد السياحي نفسه الذي رافقني حين جئتُ الرباط منذ أكثر من خمسة عشر عاماً فسألوا عني ووجدوني على هذه الحالة الصحيّة المتدهورة حينها أرادت صاحباتي الفرنسيات إعادتي إلى فرنسا فلم أطاوعهن فقلن لي شامتات هذا ما فعل بك دخولك للإسلام. في تلك الليلة قمت أُصلّي وكأنما كل خليّة في جسدي تصلي وأبكي وأكلّم ربي بأن أهلي وناسي شمتوا بي، وسخروا لاعتناقي دينك وزعموا أن ضلالي هو الذي أدّى بي إلى هذه الحالة..فنمت على سجادة الصلاة، ثم صحوت الصبح وإذا بالتورم السرطاني قد اختفى أثرهُ من جسدي، وزال وَرمه من صدري..فجريتُ للطبيب الذي دُهش لهذا الأمر وأكّد لي –غير مصدّق- خلوّي التام من المرض..يقول د. مصطفى محمود رحمه الله: قالت لي: شوف فيه جوهرة يا مسلمين أنتم لا تعرفونها، ولم تعرفوا قيمتها هذه الجوهرة إسمها الإسلام. أنتم لا تعرفون قيمة الإسلام الذي أهداكم الله إيّاه..!"
ليس من علاقةٍ يحقق بها الإنسان هدف وجوده، ويرقى به أرفع درجات مجده، وينال عليها أسمى نياشين إنجازاته، سوى العلاقة مع الله .. إن توثقت سَعُدَ وأَنِس، وإن ضعفت يئس وانهار