عبيدلي العبيدلي
نشر موقع روسيا اليوم (RT) صورة إحصائية تكشف عن مُعدل دخل الفرد من إجمالي الناتج المحلي. وكانت ثلاث دول عربية هي قطر التي احتلت المركز الأول، وجاءت الكويت ثانية، والإمارات العربية المُتحدة السادسة، في حين كان المركز العاشر من نصيب السعودية، بعد الولايات المُتحدة التي كانت التاسعة في الترتيب.
وكان معدل دخل الفرد في الدول العربية الثلاث: قطر والكويت، والإمارات هو، 141 ألف دولار، و73 ألف دولار، و67 ألف دولار على التوالي. مقارنة مع لكسمبورغ 99 ألف دولار، وسنغافورة 83 ألف دولار.
تثير مثل هذه الإحصاءات مجموعة من التساؤلات التي تتعلّق بصحة المعايير المستخدمة في الوصول إلى تلك النتائج أولاً، وإذا اعتبرناها تعكس شكلاً من أشكال المؤشرات، فلماذا نجد تلك الهوة السحيقة بين أوضاع التعليم، والرعاية الصحية، في الدول العربية المتصدرة، وتلك الدول التي تلتها في التصنيف لصالح هذه الأخيرة.؟ التساؤل الثاني، إذا افترضنا جدلاً أنّ في تلك الأرقام بعضاً من صحتها كمؤشر عام، فلماذا لا نلمس ذلك بشكل محسوس في تطور الخدمات التي توفرها الدولة لمواطنيها في البلدان العربية التي تبوأت المراكز المُتقدمة في تلك الإحصاءات؟.
الإجابة على تلك التساؤلات تكمن في مجموعة من الملاحظات التي تمس جوهر منهج تلك الإحصاءات، ومن ثم تكشف نسبة الخلل فيها، والتي يمكن حصر الأهم بينها في النقاط التالية:
1. توصلت تلك الإحصاءات إلى نتائجها من خلال قسمة حسابية مُباشرة للناتج الإجمالي المحلي لأيّ من تلك البلدان على عدد السكان، وهو منهج أكثر دقة في البلدان التي يتمتع فيها الاقتصاد وآليات حركة الأموال والاستثمارات، ومن ثم الضرائب المفروضة على الدخل، بالشفافية المطلوبة التي تحدد دخول الأفراد والمؤسسات على نحو دقيق يوفر نسبة عالية من سلامة تلك الاستنتاجات.
2. يتصاعد الخلل في تلك الاستنتاجات في اقتصادات المجتمعات الريعية التي تختل فيها العلاقة بين إنتاج الفرد وحصته التي يحصل عليها من تلك الثروة، وخاصة في الدول النفطية، حيث تتركز الثروة في يد حفنة ضئيلة من عدد السكان، راكمت ثرواتها من خلال الزواج الكاثوليكي بين المال العام، والسلطة السياسية. هذا الزواج منح أعضاء ذلك التحالف نسبة عالية من الثروة الناجمة عن مصدر واحد هو النفط، ومن ثمّ حرم نسبة عالية من السكان مما يمكن أن تناله من تلك الثروة.
3. تتراجع نسبة صحة تلك الاستنتاجات عندما يضاف لها عامل التضخم المزدوج الذي تُعاني منه اقتصادات البلدان العربية التي تصدرت القائمة المشار لها أعلاه. حيث ترتفع نسبة التضخم السنوية بفضل تضافر تأثير عاملين، الأول مصدره الثراء الفاحش السريع غير المصاحب لأيّ شكل من أشكال الإنتاج لدى تلك الحفنة الصغيرة التي يُبيح لها ثراؤها السريع قدرة شرائية هائلة تساعد على تفشي عوامل تضخمية عالية غير طبيعية. يزداد الأمر سوءًا عندما تتفاعل نسبة التضخم هذه مع ذلك التضخم المستورد من الخارج، بفضل اعتماد تلك البلدان على نسبة عالية من حاجاتها الأساسية والترفيهية على وارداتها من الخارج.
4. تتفاقم الأوضاع، وتزداد تردياً عندما يؤخذ في الاعتبار أن نسبة لا يُستهان فيها من الدخل الوطني العام لا يتم إنفاقه على مشروعات منتجة في القطاعين الصناعي والزراعي، أو حتى تقنية المعلومات، الأمر الذي من شأنه توليد دورة رأسمال طبيعية مُثمرة ومولدة لفائض ربحي يقلص من التأثيرات السلبية الناجمة عن التضخم المزدوج. وعوضًا عن ذلك نشاهد ذلك الإنفاق المتهور على موازنات التسلح والأمن، وكلتاهما يصادران نسبة عالية من نصيب الفرد من الناتج الإجمالي، دون أيّ مردود إيجابي على دورة رأس المال الوطني المنتج. كل تلك المسائل لم تأخذها في الحسبان الإحصاءات المُشار لها أعلاه.
5. يزداد الأمر سلبية عندما نقارن الموازنات المرصودة للوزارات الخدمية، مثل التعليم والصحة، والتي يفترض فيها أن تفرز مواطناً متعلماً سليماً، مع تلك التي تنفق على رفاهية أعضاء ذلك التحالف بين المال والسلطة السياسية. وليس هناك داعٍ لمقارنة تلك الموازنات مع الدول الأخرى غير العربية التي تصدرت القائمة. تكفي الإشارة هنا إلى نسبة موازنة التعليم في دولة غير نفطية مثل سنغافورة، مع أيّ من الدول العربية الثلاث التي تصدرت القائمة كي نكتشف عدم دقة تلك الإحصاءات.
يدفع كل ذلك المواطن العربي نحو تساؤل مشروع يتوزع على قضيتين مركزيتين: الأولى إلى متى سيتم هذا التوزيع غير العادل للثروات العربية على المستويين: الخاص، بمعنى استحواذ التحالف السياسي المالي على نسبة عالية من الدخل الوطني العام؟ ففي هذا التوزيع غير العادل نزف حقيقي للحاضر، وإهدار مُتوقع للمستقبل.
الثانية متى سيتم رصد الموازنات المطلوبة لقطاعات الاقتصاد المنتجة، بدلاً من إنفاقها على الواردات الاستهلاكية؟ ففي ذلك الإنفاق الباذخ إضعاف حقيقي لبناء اقتصاد قوي قادر على الاستقلالية عن تبعيته للاقتصادات الأجنبية، كائن ما كانت تلك الاقتصادات؟.
وفي اختصار من حق المواطن أن يتساءل أين تذهب أموالنا النفطية التي لا يكفي أن نتشدق بأحجامها الفلكية التي لا يعدو كونها سيولة مؤقتة قابلة للتبخر، إن لم يكن للسلب؟.