خادعة الذات البحرينيَّة سياسيًّا

 

 

عبيدلي العبيدلي

كي يفهم مكوناته، ويصبح قادرا على قراءة سيناريوهاته، يضطر المتابع لتطورات المشهد السياسي البحريني إلى أن يستعين -بوعي وإدراك، أو بعفوية- عين الخبير الغنية بتجارب صاحبها، بما أصبح يعرف في القاموس السياسي باسم "علم النفس السياسي"، وهو علم نفس حديث، لا يملك الكثيرون منا، بمن فيهم كاتب هذا المقال، قوانينه، وحيثياته، وأساليب تشخيص أعراضه... إلخ. لكنه بلغة غير المختص النفسي، وكما تعرفه بعض مصادر المعلومات العامة، التي تخاطب الإنسان العادي، هو "مجال أكاديمي متعدد الاختصاصات، يقوم على فهم السياسة والسياسيين والسلوك السياسي من منظور نفسي. وتعتبر العلاقة بين السياسة وعلم النفس ثنائية الاتجاه؛ فيستخدم العلماء علم النفس كمرآة لفهم السياسة، وكذلك السياسة مرآة لعلم النفس. ويعد هذا العلم مجال متعدد الاختصاصات، لأنه يأخذ مادته من مجموعة واسعة من التخصصات الأخرى، بما في ذلك: علم الإنسان، وعلم الاجتماع، والعلاقات الدولية، والاقتصاد، والفلسفة، ووسائل الإعلام والصحافة، إضافة إلى التاريخ".

وكي تكتمل الصورة لدى ذلك المشاهد الراغب في قراءة السيناريوهات المختلفة التي تنتظر مستقبل ذلك المشهد، ينبغي أيضا الاستعانة ببعض التحليلات النفسية، كالتي يستخدمها كاتب مثل أحمد العاقد، الذي يقارب بين الكذب السياسي وخداع الذات؛ حيث نجده يقول: "يحتل الكذب السياسي موقعا نوعيا في الممارسة السياسية إذ يتخذ أشكالا تداولية عديدة تتراوح بين التجلي عبر اللغة والتخفي في ثنايا الصيغ التواصلية؛ فتارة تبرز الأكاذيب السياسية دفعة واحدة قصد التهرب من تحمل المسؤولية السياسية اتجاه قضية شائكة أو نتيجة تسرع الفاعل السياسي وتراجعه في الآن نفسه، وأحيانا تظهر بشكل زمني تدريجي عبر الانفعالات السياسية اللفظية؛ إذ تأتي في مراحل متأخرة بعد عدم تمكن الفاعل السياسي من الحفاظ على انسجام لغته السياسية وتماسك موقفه وخطابه. ويتمثل العنصر الحاسم لإظهار الأكاذيب السياسية أو إضمارها في مدى تمكن السياسي أثناء استعمال اللغة المخادعة من امتلاك تقنيات تعبيرية مراوغة نصفها تجاوزا بمهارات الكذب. فكلما كانت مهارات الفاعل السياسي قوية، كانت الأكاذيب السياسية خفية وغير معلنة على مستوى الموقف والخطاب؛ وكلما كانت المهارات ضعيفة، تطفو الأكاذيب السياسية على السطح ولا تجد سبيلا إلى التستر في ثنايا اللغة التواصلية السياسية. وتحدد قوة هذ المهارات أو ضعفها في قدرة الفاعل السياسي على التفاعل مع الملابسات والتحولات التي يشهدها حدث سياسي معين مما يجعلها مقترنة بالسياق السياسي ومؤشراته الخطابية والتواصلية".

وفي هذا السياق، يورد الباحث أحمد إبراهيم خضر، على لسان هارولد لازويل، الذي يعتبره البعض مؤسس علم النفس السياسي قوله "إنَّ القادة السياسيين يُسقطون حاجاتهم الشخصيَّة على الحياة العامَّة، ويُعطون عقلانيَّة لأفعالهم على أساس ما يُعْرف بالخير العام، باختصار: إنَّ القادة يَعكسون صراعاتهم اللاشعوريَّة ورغباتهم الداخليَّة على الواقع الخارجي، وحتى في الشؤون الدولية."

يقودنا كل ذلك إلى استخدام هذا العلم، دون ادعاء الإمساك بخلفياته الأكاديمية، لكن بيد القارئ السياسي للمشهد البحريني، كي نقول أن هناك مخادعة سياسية للذات البحرينية تمارس يوميا فوق مسرح العمل السياسي. نبدأ ذلك من حيث يبدأ قادة هذا المشهد الذين لا يكفون دون استثناء على ترديد مقولة واحدة مفادها محاربتهم للطائفية، وعلى وجه التحديد ذلك النمط منها الذي يرتكز إلى الطائفية السياسية. هذا هو الخطاب الشائع اليوم في سوق العمل السياسي البحريني. بل ربما هو الخطاب السائد في سوقه العربية. والمحصلة الطبيعية المتوقعة من ذلك السلوك هو مجتمع خال من الطائفة، نابذ لها. هذا إذا اتفقنا جميعا على أن "العمل السياسي هو التحرك لإحداث أمر والوصول إلى هدف، أو التصرف حيال حدث، أو مجابهة منافس أو خصم أو عدوّ".

لكن الواقع المرير يقول خلاف ذلك بل يناقضه، فمن يرصد مكونات العمل السياسي البحريني، وبل ربما العربي على نحو أكثر شمولية، يجد المجتمعات العربية بشكل عام، ومكوناتها السياسية على وجه الخصوص منقسمة طائفيا إلى أربع فئات رئيسة، جميعها تمارس بوعي أو بدون وعي مخادعة الذات سياسيا، هي:

* قسم -ومن منطلقات طائفية بحتة- أدرك ذلك ام لم يدركه، يتوهم أنه هو الأكثر ثورية، وتقع على مسؤوليته إعادة رسم الوضع السياسي للبحرين، منصبا نفسه بديلا وحيدا لباقي المكونات، ومدافعا عن مصالحها، ومن ثم فهو المؤهل أن يوصل البلاد إلى شاطئ الأمان.

* طرف ثان يعتقد أنَّ تناقضه الرئيس مع الفئة الأولى، ومن ثم عليه أن يكرس جهوده في التناحر معها، والتضاد مع مشروعاتها، دون النظر المعمق فيها، والقراءة المتمعنة فيما تحتويها، ومن ثم فهو الآخر، يتوهم بوعي أو بدون وعي، انه المؤهل دون سواه، إنقاذ البلاد من السير في الطريق غير الصحيحة، التي ستوصلها، من وجهة نظر هذا الفريق، إلى الهاوية.

* طرف ثالث مُتفرِّج مُنقِسم هو الآخر بموجب قوانين معادلة انقسام الطرفين الأولين المشار لهما أعلاه. ومن ثم فهو تارة يصب مياهه في كفة الطرف الأول، وتارة أخرى يضع قواه في كفة الطرف الثاني، والمحصلة أنه يشعل فتيل الطائفية، بدلا من أن، كما يتوهم ساذجا، يطفئ نيرانها، وهو الآخر يمعن في خداع ذاته عندما يتوهم أنه بعيدا عن خداع النفس السياسي.

* طرف رابع -وهو حفنة ضئيلة ومعظم أعضائها من المثقفين السياسيين، والمتقاعدين من العمل السياسي- لا يكف عن توجيه النصائح، بعد كيل الانتقادات، وهو الآخر لا يدرك أنه بهذا العمل إنما، بوعي أو بدون وعي، يسكب الزيت على نيران الطائفية البغيضة، عندما يمارس خداع الذات الذي نشير إليه.

والمحصلة النهائية الحقيقية التي تشكل العامل المشترك بين تلك الأطراف، هي خطاب طائفي متخف ربما لا يدركه البعض لأن فيه الكثير من مخادعة الذات، التي باتت بحاجة إلى طبيب نفس سياسي يتداركه قبل أن يتطور فيصبح مرضا عضال يصعب الشفاء منه، هذا إن لم نكن قد وصلنا إلى هذه الحالة المتردية بعد.

ولعلَّ الخطوة الأولى على طريق علاج هذا الخداع الذاتي المتخفي، هي الكف عن مخادعة الذات ومحاولة الإجابة عن سؤال المليون دولار: من هو المستفيد من حالة مخادعة الذات السائدة؟