عائشة البلوشية
كان الوقت عصرًا في أحد شتاءات النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، ونحن نلوذ بإحدى خيام المدرسة ننتظر السيارة الـ"بيك أب"، كانت الرياح تعصف وتثير الغبار الذي يتطفل على أعيننا وأنوفنا، وﻷنني كنت في الصف الأول فقد رميت بحقيبتي الثقيلة من فوق رأسي إلى الأرض ﻷجلس عليها، وهذه كانت الطريقة الوحيدة لنتمكن من حمل الحقيبة، فأجسادنا الغضة لا يمكنها حمل كل ذلك الحمل بيد واحدة، وما أن هممت بالجلوس على الحقيبة حتى رأيت السيارة تلوح من بعيد، وانكفأت التقط الحقيبة استعداداً للقفز في الـ"كريل"، فرأيت سلسلة من الذهب وبها سكبية دائرية كتب عليها "الله"، وأمسكت بها ولم أدر كيفية التَّصرف الصحيح في ذلك الوقت الحرج، فركضت ﻻبنة عم والدي التي تسبقني في الدراسة فاطمة بنت عبد الله، وسألتها باستعجال ماذا أفعل؟ ولمن أسلمها؟ قالت لي: أركضي إلى مكتب الناظرة أبلة نعمة وسلميها القلادة، ونفذت وأنا ارتعد خوفًا من أن تتركني السيارة وأعود إلى المنزل مشيًا، فأتعرض للعقاب من جدتي بسبب تأخري، ولكن ابنة العم -جزاها الله خيرًا- أخبرت السائق، وفي اليوم التالي ونحن نقف في الطابور والشمس لها الحظ الأوفر من رؤوسنا، إذا بالناظرة تلقي علينا كلمة عن الأمانة وعن جزاء من يُحافظ عليها في الدُنيا والآخرة، واسترسلت لوهلة تتحدث عن الأمانة وما هي إلا هنيهة وسمعت باسمي ينطلق من بين شفاهها ودعوتي ﻷن أخرج من الطابور وأتوجه إليها، فأحسست لحظتها بأنّ كل قدم في جسدي أصبح بثقل جبل كاواس، وأنني أصعد سلالم عمودية، ولو أنني جرحت ساعتها لما وجدوا قطرة دم تجري في عروقي لشدة خجلي، ووقفت أمام الطابور ليصفق الجميع تكريمًا لتصرفي تجاه الأمانة التي سلمتها ﻹدارة المدرسة، وأنا أزدرد ريقي حتى لا أقع مغشيًا عليّ، وفي داخلي سؤال بريء يقول: ما الذي فعلته كي تتعامل معي أبله نعمة بهذه الطريقة، فقد ربتنا جدتي أننا لو وجدنا "تفروقة" على الأرض يجب أن نسلمها لشخص بالغ (التفروقة هي ذلك الجزء الأصفر الذي تنتهي به الرطبة/ التمرة، ويكون الواصل بينها وبين الشمروخ في عذق النخلة)، لذلك لم أفعل -في نظري- ما يستحق التصفيق، فهذا الخُلق عادة تربينا عليها جميعا فأصبح ديدنًا لنا في تفاصيل يوميات حيواتنا...
الأمانة في اللغة ضد الخيانة، وأصل الأَمْن طمأنينة النفس وزوال الخوف، والأمانة مصدر أمن بالكسر أمانة فهو أمين، ثم استعمل المصدر في الأعيان مجازًا، فقيل الوديعة أمانة ونحوه، والجمع أمانات، فالأمانة اسم لما يُؤمَّن عليه الإنسان، نحو قوله تعالى: [وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ] الأنفال 27، أي ما ائتمنتم عليه، وقوله: [إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ] الأحزاب 72. أما الأمانة اصطلاحًا فهي كلُّ حقٍّ لزمك أداؤه وحفظه، وقيل هي التَّعفُّف عمَّا يتصرَّف الإنسان فيه مِن مالٍ وغيره، وما يوثق به عليه مِن الأعراض والحرم مع القدرة عليه، وردُّ ما يستودع إلى مودعه، وقال الكفوي: كلُّ ما افترض على العباد فهو أمانة، كصلاة وزكاة وصيام وأداء دين، وأوكدها الودائع، وأوكد الودائع كتم الأسرار...
وكما جاء في الآية 72 من سورة الأحزاب، فقد عرض الله تعالى الأمانة على السماوات والأرض والجبال، ولعظمها وثقلها رفضن حملها، وأشفقن منها، ورغم ذلك حملها الإنسان، ولذلك يجب علينا أن ندرك ما هي الأمانة التي يجب علينا أن نحافظ عليها، وعليه فإننا نستخلص من التعريفين أعلاه أن للأمانة أشكال في حياتنا اليومية، وسأحاول تلخيصها في السطور المُقبلة ﻷنّها تعتبر بمثابة الكاتالوج الشخصي لكل فرد منّا، نتفقد التزامنا ببنوده، ونراجع أنفسنا، وأول شكل من أشكال الأمانة هو حفظ الدين والتمسُّك به وبكل ما جاء فيه، وتعتبر الدعوة إلى الدين أمانة، لهذا فإنّ جميع الأنبياء كانوا يحملون فكرة واحدة وهي الدعوة إلى عبادة الله عزّ وجلّ دون سواه بأمانة وإخلاص، وهذا الشكل هو من أرقى أنواع الأمانة وأصعبها؛ أما الشكل الثاني للأمانة فهو حفظ السر، فعندما يأتمنك إنسان ما على سره، فإنها أمانة عظيمة وعليك أن تحفظ له السِتر من أمرٍ لا يُريد لأيّ مخلوق الاطلاع عليه؛ وفي عالمنا المعاصر رأينا الكثير من خيانة الأمانة عبر التطبيقات المختلفة لمواقع التواصل الاجتماعي، فكم من شاب أضله الشيطان وقام بنشر صورة فتاة وثقت به، أو مقاطع فيديو يستعرض فيها أنّه محبوب من الجنس الآخر، فاليوم مع هذه وغدا مع تلك، فيهدم مستقبل تلك الفتاة، ويصبح اسمها حديث سقيم تلوكه الألسن، ومن أعظم أنواع المحافظة على الأسرار، هو السر بين الزوجين، الذي يجب ألا يخرج من بينهما أبداً، ولكننا للأسف أصبحنا نرى الكثير من الأسرار الزوجية تنشر في مواقع التواصل الاجتماعي كانتشار أشعة الشمس في نهار صيفي حارق في صحراء الربع الخالي، ولا ندري هل هو عدم إدراك لعظم هذه الأمانة، أم أن الوازع الديني أصبح ضعيفاً -نسأل الله الهداية والعافية-، وأبسط هذه الأمور هو الهدايا بين الزوجين مثلاً، والتي أصبحت مدعاة للمباهاة بين الصديقات والقريبات للأسف، والتي عادت على بعض البيوت وبالاً، فكم من قلب كسر نتيجة المقارنات، وكم من شحناء دبَّت نتيجة كثرة الطلبات بالمساواة بالصديقة أو الأخت أو العديلة!...
إنّ جسدك أيضاً شكل آخر من أشكال الأمانة، فلبدنك عليك حق، ومن واجبك أمام خالقك الحفاظ عليه من كُل ما يضُره، ومما يذهب العقل أو الوعي وبالتالي ينعكس على صحتك العامة، ولا يقتصر الأمر على الأعضاء الخارجية والداخلية للجسد، بل إنّ السمع أمانة والبصر أمانة وجميع حواسك، فلا تُوظفها في أيّ أمرٍ يُغضب الله عزّ وجلّ، بل تذكر أنّ هذه الحواس ستكون شاهدًا عليك يوم القيامة، فتخير لنفسك نوع الشهود وهل سيكونون إلى صفك أم سيشهدون ضدك؛ قال تعالى: [إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها] لذلك فلنبحث عن صاحب كل أمانة، ونحاول أن نحافظ عليها وأن نرد الأمانة لمن ائتمننا عليها...
وللحديث بقية......
توقيع: قال تعالى في الآية 26 من سورة القصص:{قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ}. صدق الله العلي العظيم.