عبيدلي العبيدلي
في خضم المعارك الداخليّة العربية هناك عامل مشترك يسيطر على عقليّة المعارضات العربية دونما استثناء وهي التنصّل من أيّة مسؤولية أولا، وإلقاء مسؤولية الانحدار الذي وصل إليه العرب على عاتق السلطات القائمة ثانيًا. ليس دفاعًا عن هذه السلطة العربية أو تلك، فهي بطبيعة الحال تتحمل نسبة عالية من مسؤولية الأسباب التي قادت حركة التطوّر العربية نحو المأزق الذي تعيشه، لكنها في الوقت ذاته ليست وحدها مسؤولة عن هذا المصير، فهناك نسبة لا بأس بها تتحملها المعارضات العربية، والشواهد على ذلك كثيرة في التاريخ العربي المعاصر.
ولكي نستطيع رسم صورة هذا الواقع، وتوزيع المسؤوليات، لا بد من العودة قليلا نحو الوراء، وتحديدا إلى السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الأول التي حملت فيما حملت إلى المنطقة العربية اتفاقية ساسي - بيكو المشؤومة. ولو أمعنا النظر في تلك الاتفاقية، وقرأناها بصورة موضوعية غير منفعلة، لا كتشفنا أن المعارضات العربية للدولة العثمانية حينها، كانت هي، وبدون وعي منها، التي ساعدت في هزيمة الدولة الثانية، وسهلت على الحركة الاستعمارية الأوروبية التغلغل في المنطقة العربية أولا، وإحكام سيطرتها عليها ثانيا، وتقسيمها على النحو التي هي عليه اليوم ثالثا وليس أخيرًا. لقد اختارت الطرف الخاطئ الذي كان عليها أن تقيم تحالفاتها معه. ربحت أوروبا الغربية الحرب، ومعها تحركت طلائع الحركة الاستعمارية الحديثة، تقودها فرنسا وبريطانيا، كي تحكم قبضتها على المنطقة العربية.
نقفز عقودًا من الزمان كي نصل إلى المرحلة الراهنة، وتحديدا عند انطلاق شرارة الحراك العربي الأخير، ونتوقف عند الساحات الأكثر التهابا، كي نكتشف الحقائق المرة التالية:
في العراق لم تترد المعارضة العراقية في مطلع هذا القرن في الاستعانة بالأمريكيين، ومن ورائهم الإيرانيين من أجل تسهيل مهمتهم في القضاء على نظام صدام حسين. ليس هناك من يدافع عن نظام صدام، لكن ما آلت إليه الأمور في عراق اليوم، أرغمت الكثير من القوى على الترحم على عهد صدام، رغم أنّ الجميع لا ينكر فساد ذلك النظام، وطبيعته القمعية، وسياساته المدمرة التي هشمت العراق. لكن من وصلوا إلى سدة الحكم بعده، كان أشد سوءا منه.
وازداد الأمر سوءا، فلم تكتف تلك المعارضات العراقية بركوب صهوة حصان طروادة الأمريكي، بل فتحوا أبواب العراق على مصراعيها أمام القوات الإيرانية التي من مصلحتها أن يتشظى العراق، ويقع أسير حروب أهلية/ طائفية متتالية. وليس هناك من في وسعه اليوم أن ينكر تحول العراق إلى أحد أقضية الدولة الفارسية.
ومن العراق ننتقل إلى سوريا، كي نجد فسيفساء من المعارضات لنظام بشار الأسد التي حاولت هي الأخرى، وهي في عجلة من أمرها، اختصار طريق إسقاط النظام من خلال الاستعانة بمجموعة من القوى الخارجيّة التي لها مصلحة مباشرة في استمرار الصراعات محتدمة فوق الأراضي السورية. وهنا وجدنا تحول سوريا إلى ملعب تتبارى فوقه جيوش ما لا يقل عن عشر دول منها الإقليمي ومنها الدولي.
والمحصلة، استمرار النظام القائم، وتداعي مقومات المجتمع السوري، وزيادة تدخل القوى الأجنبية، وتشرذم القوى التي يفترض فيها أن تتحد لإسقاط نظام الأسد، الذي ليس هناك من يختلف على فساده وطبيعته القمعيّة.
ولا تختلف ليبيا في الجوهر، وإن تباينت في التفاصيل، عن شقيقاتها سوريا والعراق، إذ جاءت المحصلة النهائية لمعارك إزاحة معمر القذافي، الذي هو الآخر لن يجد من يدافع عن نظامه، استمرار المعارك، وانقسام حاد في المجتمع يهدد بإعادة رسم خارطة النظام الليبي كي تكون ملائمة لنتائج الحروب الطائفية، وليس لسقوط نظام القذافي.
قائمة الدول العربية طويلة المشابهة، وليس هنا مكان سرد جميع أسمائها، لكن إن كان هناك من درس يمكن أن يستقيه المراقب العربي للمشهد السياسي العربي الراهن، فسوف يكون، وبعد التركيز على الصورة الرئيسة في ذلك المشهد، وتحاشي الغوص، ومن ثم الضياع في التفاصيل، فهو ذلك العجز المزمن الذي تعاني منه المعارضات العربية التي فشلت حتى الآن في وضع وتنفيذ البرنامج الصحيح الذي يضمن لها إحداث التغييرات المطلوبة في النظام العربي المعني، دون الوصول إلى النهايات التي تم عرضها، دون أن يعني تبرئة الأنظمة القائمة من مسؤوليتها التي ينبغي لها أن تتحملها عند الحديث عن الواقع العربي المعاصر.
ولربما تكون الخطوة الصحيحة المطلوب من المعارضات العربية الإقدام عليها على طريق الوصول بالمجتمعات العربية نحو الهدف الذي ينقلها من حالة الاقتتال العبثي إلى الصراع المجدي، هو وقوف هذه المعارضات أمام المرآة عارية والنظر إلى ذاتها بعيدا عن أية مساحيق أو طلاءات ثم امتلاك الجرأة كي تمارس عملية تقويم ذاتي موضوعي للمرحلة السابقة للخروج بالدروس المطلوبة التي تنتشل المعارضات العربية من أزماتها المزمنة التي تعود جذورها إلى - كما ذكرنا - نهايات الحرب الكونية الأولى.
ربما تكون العملية صعبة ومضنية، لكنّها ليست مستحيلة، إن شئنا للوليد الذي سيأخذ على عاتقه عملية التغيير المطلوبة أن يرى النور دون الحاجة إلى عملية قيصرية، ولا إلى التضحية بالأم.