الحاجة إلى إرادة عربية حديدية

عبيدلي العبيدلي

شاءت الظروف أن أكون حاضراً في حوار ساخن ضمَّ مجموعة من الإعلاميين الخليجيين. كان موضوع الحوار الأزمة التي تلم بالعالم العربي، والتي لم تعد محصورة في جوانبها التقليدية التي عرفها الواقع العربي المعاصر مثل المناوشات الحدودية بين بعض البلدان العربية، أو الحروب الإعلامية بين هذا القطر العربي وذاك، ولا الانشطار السياسي العربي حول هذه القضية أو تلك. تجاوز الأمر كل ذلك، وبات يمس المواطن العربي الذي تحوّل، دونما سبب واضح، إلى ضحية "مجازر" تجتاح المنطقة العربية من المغرب حتى اليمن. تتفاوت هذه المجازر في حجومها، وتتعدد أشكالها، لكنها في نهاية المطاف تصب في أتون واحد هو تشظية المنطقة العربية من جانب، وضمان عدم استقرارها من جانب آخر.

بعيدا عن نظرية "المؤامرة"، يمكن تشخيص ما يمكن أن ينجم عن ذلك الوضع مجموعة من المخاطر التي يمكن حصر الأهم منها في النقاط التالية:

1. اجتماعياً: من المحتمل أن ينشأ جيل عربي يعتبر أنّ هذه الحالة هي الحالة العربية الطبيعية، ومن ثم، وبدلاً من أن يشب أبناء هذا الجيل على قيم "الوحدة العربية"، بغض النظر عن صيغة هذه الوحدة من حيث الهشاشة أو التماسك، سنجده يترعرع في أوحال العداء المتبادل، ليس بين قطر عربي وآخر، كما شهد مثل هذه الحالات أجيال الستينات والسبعينات، بل تناحر الطوائف ضمن القطر الواحد. هذا يقود إلى تنشئة جيل من الأنانيين، قصيري النظر، المناهضين لكل ما هو قائم على القيم الاجتماعية الداعية للتآزر، دع عنك التوحد.

2. سياسيًا: يحمل هذا الواقع في طياته خطرين كل منهما أسوأ من الآخر، فمن جانب تفتح هذه التناحرات، حتى تلك الأكثر صغرا فيها، الأبواب مشرعة أمام التدخلات الأجنبية التي تتحين الفرص من أجل فرض سيطرتها على مُقدرات الدول العربية. ومن جانب آخر، وهو الأكثر سوءا تحول هذه التناحرات غير المنطقية دون تبلور مشروع عربي، حتى مجرد التفكير، دع عنك التخطيط أو التنفيذ، قادر على تحمل المسؤوليات الملقاة علينا نحن كعرب.

3. اقتصادياً: يستنزف هذا الواقع الموارد الطبيعية والبشرية على حدٍ سواء، ويحول الأقطار العربية الثرية، بما فيها تلك التي بحوزتها الفوائض النفطية إلى مقترضين بدلاً من أن يكونوا، كما يقول المنطق، دائنين. هذا النزيف التي يتوقع له، ما لم توقفه معجزة، أن يستمر طويلاً على المستوى الاقتصادي، ومن ثم أن يُعيد الكثير من البلدان العربية، وعلى وجه الخصوص منها تلك التي تشهد ساحاتها معارك ساخنة مثل العراق ومصر، إلى دول غارقة في ديونها الخارجية، وغير قادرة على التخطيط لأيّ مشروع اقتصادي تنموي.

4. عسكرياً: على المستوى الإستراتيجي، يضع مثل هذا الاقتتال الكثير من العقبات في وجه بناء جيش موحد، والحديث هنا عن الجيش القطري التابع لدولة واحدة على حدة، وليس ذلك الجيش العربي القومي. ينعكس ذلك على مقومات الدولة العربية الحديثة أولاً، ويفتح شهية القوى الخارجية، بما فيها تلك الإقليمية، كي تلتهم ما تشاء من الأراضي العربية، وهو ما بتنا نشهده في دول مثل العراق.

5. تنمويًا: يغرق هذا الوضع الملتهب "العقول العربية" صانعة القرار في مستنقعات المُتابعة اليومية التفصيلية، ويحرمها من القدرة على التفكير في مُستقبل الأمة، ومن ثم تتقزم المشروعات العربية وتصبح محصورة في المتابعة اليومية للأحداث. وتنتقل تلك المشروعات من التخطيط للأمور الكبرى إلى اللهث وراء متطلبات القضايا الصغرى، التي تفرض نفسها على تلك العقول، ورويدًا رويدا تذبل تلك العقول وتعجز عن تجاوز ذلك الواقع الذي يحكم قبضته على تفكيرها، ومن ثم سلوكها.

بطبيعة الحال يصعب القول إنّ هناك عربياً قابل بهذا الوضع المزري، أو موافق عليه، باستثناء تلك الحفنة المستفيدة منه، والضالعة بوعي في تلك المشروعات التي تقف وراء هذا التمزق العربي، وما يحضنه من مشروعات تهدف إلى الإمعان في تمزيق النسيج المجتمعي العربي ولا تقف حدود تآمرها عند محيطات الاقتتال، أو المنازعات.

وعليه، ربما آن الأوان لكي تأخذ الدول العربية، وعلى وجه الحديد أولئك الذي يجلسون فوق كراسي دوائر صنع القرار فيها، خطوة نحو الوراء كي ينظروا إلى المشهد العربي من زاوية أوسع، ومن رؤية أعمق تمكنهم من تلمس المخاطر المحدقة به، ليس في الوقت الراهن فحسب، بل في المستقبل القادم أيضًا. على أن معاينة المشهد، ستفقد مُبرراتها وجدواها، متى سيطرت عليها النزعات الأنانية، وفي المُقدمة منها تلك المستندة إلى نظرة ضيقة الأفق، تضع ما هو قُطري فوق ما هو قومي، وتعطي الأولوية لما هو طائفي أو فئوي على حساب ما هو وطني.

قد تبدو هذه المهمة صعبة في هذه المرحلة بالذات، لكن صعوبتها الحالية ينبغي أن تتراجع لمصلحة الحل الذي يأخذ في الاعتبار الصعوبات الأشد المتربصة بالمنطقة العربية، في حال استمرار الأوضاع على النحو الذي هي عليه اليوم.

ليس المطلوب هنا انتظار معجزة تنتشل العرب من هذا الواقع المرير، فقد شهدت أمم أخرى غير عربية أوضاعاً لا تقل سوءًا عن تلك التي نتحدث عنها، لعل أبرزها حال الأمة الألمانية في أعقاب هزيمة هتلر في الحرب الكونية الثانية، لكن وحدها الأمم الحية، مثل الأمة الألمانية القادرة على الخروج من عنق زجاجات الأزمات، وهي أشد صلابة، وتصميمًا ليس على معالجة الأزمة بل تجاوزها، من خلال إرادة حديدية، وعزيمة صارمة ومشروع قابل للتحقيق.

تعليق عبر الفيس بوك