"آدم بالأبيض والأسود".. الهنائي يحرر في كتابه الجديد صحيفة إنسانية تزخر بالتجليات النفسية

من إصدارات النادي الثقافي العماني

جمال النوفلي

أصدر النادي الثقافي العماني كتاب "آدم بالأبيض والأسود" من تأليف الأستاذ أحمد الهنائي،

هو ليس كتاباً أدبياً فحسب، وإنما صحيفة إنسانية في غاية الجمال والإبداع، أي أنّك عندما تقرأه سوف تشعر بالإنسان في مختلف تجلياته السايكلوجية، فسوف تجد فيه حياة الإنسان الشاعر (جمعان ديوان وعلي الصومال)، وحياة الإنسان المستغل لوظيفته (الفراش سالم)، وحياة الإنسان النشيط المثابر، والإنسان المتشائم، والإنسان المنبوذ والمقهور، وتجد كذلك الإنسانفي مختلف حالاته، حالته بعد مماته وحالته في مرضه وقبل مماته، وستجده أيضًا يتناول حيوات الإنسان بأعمارها المختلفة، فهو يكتب عن الطفل المحروم وعن الشيخ الحكيم وعن الشاب المُثابر،ويكتب عن الأنثى واقفة بجانب الرجل كما يكتب عنها واقفة أمامه وفي مواجهته أيضًا، لهذا كانت تسمية الكتاب بذاك الاسم (آدم بالأبيض والأسود) تسمية صائبة.

وعندما نقرأ بعض المواضيع المتناولة لشخصيات أدبية أو قامات شعرية عمانية، نجدها تنبش في حياة الكُتَّاب ويومياته العادية البسيطة، وتضيء جوانب من حياتهم الشخصية كتعاملهم مع أصدقائهم وعوائلهم، وقصصًا لهم فيها الكثير من الظرف والعديد من الفوائد والعِبر، وربما الميزة الأخرى التي تجذبني في هذا الكتاب هي أسلوب كاتبه الشيق، فأنا ما فتئت أنقلبت الصفحة الأولى من الكتاب لأقرأالإهداء حتى وجدتني مسترسلاً لأصل نصف الكتاب ثم أنهيه كاملاًفي ساعات، هل كانذلك لجمال أسلوبه أم لبلاغة معانيه، وفصاحة كلماته؟!، حتى أنه في إحدى مقالاته الجميلة أوقعني في مصيدة محكمة، كشفت لي عن حجم جهلي بكبار الكُتاب العالميين وضعف تقديري وتمييزي بينما يكتبه كاتب عالمي مثل نيتشه أو سارتر أو شاعر عربي مثل أبي العلاء المعري وبين ما يكتبه أي كاتب أو شاعر آخر غير مشهور أو معروف بقدر شهرتهم وتاريخهم. واتضح لي كيف أنّ الإعلام والدعاية هي من تصنع العظماء أو هي الوسيلة التي يُمكن للمرء من خلالها أن يكون عظيماًجداًوكبيراً جداً،ولهذا سمي الإعلام سلطة .

والكتاب عبارة عن مجموعة مقالات كتبها الأستاذ أحمد الهنائي في فترات سابقة من حياته وتناولت جوانب عديدة، وأحمد الهنائي كاتب وصحفي جميل، قدم للصحافة وللثقافة عامة العديد من الأطروحات والمواضيع الجيدة، والتي نالت إعجابًا واهتمامًا من الجمهور لما يتمتع به أسلوبه من حس إنساني ومشاعر مرهفة تذيب الران من القلوب وتنزل الماء من العيون وتشحذ الهمم الخائرة وتثير المشاعر الراكدة، أما لغة الكتابة فهي ثرية جدًا، ثرية بالمفردات المتنوعة وثرية بالمعاني الجميلة،وأجمل من كل ذلك هو الخيال الواسع، الذي يحملك إلى فضاءات وعوالم مختلفة من الجمال، وفي كل جملة تقرأها منذ بداية الكتاب وحتى آخره، ستجد نفسك منتقلاًبصورة سحرية من واقعكإلى خيالاته وتشبيهاته المبهرة، وكأن أسلوبه هو نفسها (ساعة الزمن) التي تنقلك في برهة إلى أجمل الأماكن وأحلى الأزمان والأوقات، وتلون لك الاتجهات بشتى الألوان الجميلة وتضيء لك السماء بأحلى القناديل البراقة، تجد ذلك مثلا عند افتتاحه لمقال -نعمى لكم أهل عمان- فيقول: (تعيش صلالة موسم الأفراح في كل صائفة جارية، فهي زاهية جميلة متفائلة، تنظر إلى الحياة نظرة أساسها الأحلام والآمال، تستقبل زوراها بنخوة عارمة وفرحة لا تُوصف، تفرش لهم الأبسط الخضراء، تنعمهم برذاذها، فتدخل عليهم طمأنينة، ما كانوا لها على موعد، تُغني لهم، وتُغرد وتصدح أصواتها، داخل مهرجانها، مبتغاها إسعادهم، وجعلهم يحيون حياة، كلها نعومة ودفء وحرارة وحب وأمل وعزيمة واسترداد لقوة نالها شيء من ضعف وكلل وملل) . نعم إنّه السحر عينه، فإذا شاء أن يصف لك مشهداً مأساويًا فإنّه يدخلك مباشرة إلى فوهة الأسى لتشعر معه بحجم المعاناة الكبيرة وألم المصاب الجلل، خذ مثلاً ألم الموقف وبراعة التصوير في هذا المقطع من مقاله -موت يباع - : (عندما تمد يدك متوسلاً لحبيب طالباً منه المكوث معك، وأنت تحتاج إليه، لا لشيء إلا لأنّك تشعر بأنّ قربه يمنحك شيئاً من السعادة ويُزيل عنك كثيرا من أدران الحياة ومصاعبها ونصبها ووصبها، ولا يكترث لك، ويرحل عنك، وأنت كنت تظن أنّه لا يطيق البعد عنك، ولو لوهلة، فاعلم أن حياة، كل من فيها يخذلك، لا خير فيها، فاشتر الموت كي توهب لك الحياة في قلوب الآخرين وأنت تحت الثرى).

ويستعمل الكاتب بعض الصيغ الدينية الدارجة، وهو أسلوب يستخدمه بعض الكتاب لدعم الفكرة وللوصولإلى اللاواعي لدى القارئ فيؤثر به تأثير الدين على المرء، فيسيطر عليه ويوجهه الى الشعور والفكرة التي يقصدها دون عناء وحاجة إلى استخدام كثير من الاستدلالات والتعليلات والتفسيرات.. من ذلك ما قاله عند وصف المروج الخضراء في الوادي الأعلى : (والضواحي الممتدة التي تحرك النسمات الخفيفة زرعها وبرها وقمحها وشعيرها ويجثو على التراب بصلها وثومها وجزرها وقثائها) وكاستخدامه الدعاء في مقاله عن إعصار فيت وقوله "(إنا نتبرأ منهم ونعوذ بالله أن يقتفي أحد دربهم، وليقي الله البلاد من كل شرور) وفي مقال آخر يقول (جزى الله المحسنين خيرًا وعوضهم أجرًا) كما أنّه خصص مقالا مستقلا عن شهر رمضان، وفي قوله أيضا (والله يعلم أنني لم أعد ضامناً لها، إنما الرزق بيد الله، وفي السماء رزقكم وما توعدون) وغيرها الكثير، وستلاحظ أيضاً أخي القارئ أن الكاتب يميل أحيانًا إلى إظهار قدرته وتمكنه في التعامل بتراكيب الألفاظ وتقليبها على وجوه المعاني المختلفة دون أن تخل بجمال الصورة أو قوة المعنى، ويبدو ذلك ظاهرًا في مقالته (موت يباع) التي قسمها إلى ثمان فقرات، وكل فقرة من تلك الفقرات تبدأ بكلمة حرفها الأول هو أحد حروف العنوان فإذا ما جمعتها مرتبة خرجت لك بنفس عنوان المقال، وقد وضعها على هذا النحو دون أن يشعر القارئ بوجود هذا التناسق الجميل والتسلسل ما لم ينتبه أو ينبههإلى ذلك منبه، وهو أسلوب تقليدي كان يستخدمه الشعراء والناسخون في عهد الدولة اليعربية وما بعدها. وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على تمسك الكاتب بجذوره في الأدب العربي عامة والعماني القديم خاصة واستفادته منها، كما يدل استخدامه لبعض الصيغ والأساليب الدينية عن العمق الثقافي الديني الذي نشأ عليه الكاتب وتربى عليه في فترات من عمره.

والكتاب صغير في حجمه، كبير في مواضيعه وأفكاره، ورائع ومُبهر في مواضيعه وأسلوبه، خاصة في كشفهوتحقيقه لبعض الشعراء الرائعين من محافظة ظفار وكشفه عن مكانتهم وتاريخهم أجمل ما كتبوا وما غناه لهم كبار الفنانين العرب، غير أنّ الكاتب نفسه ربما يستخدم الأسلوب الخطابي الوعظي في بعض الأحايين لتوجيه القارئ الى اتخاذ سلوكيات أفضل، أو تجنب سلوكيات أسوأ، وهو بهذا ينزع ثوب الصحفي ويتقمص دور الواعظ أو دور (الكاهن الأعظم)كما كتب لي في إهدائه الظريف لي على الصفحة البيضاء الأولى من الكتاب واصفًا بذلك أحدنا، ولم أعرف من يقصد بالكاهن. ولا شك في أنّالكتاب ثري باللغة وبه الكثير من المعلومات والتحقيقات لشخصيات أدبية قد لا توجد في أي مصدر آخر، كما أنّه بحاجة إلى قراءات أفضل من قراءتي، حاله كحال الكثير من الكتب العُمانيةالعديدة التي نشرت في السنوات الأخيرة، ولم تنل حظًا وافرًا من القراءة .

تعليق عبر الفيس بوك