خمسة أيام في الجزائر

ناصر الكندي

نادراً ما تجتمع صفتان في السفر: العمل والسياحة. فكلاهما هارب من الآخر أو بالأحرى الثانية هاربة من الأولى، ويزيد النفور أكثر إذا كانت أيام الإقامة بعدد الأصابع وساعات السفر طويلة. ولأنّ أغلب الأوقات هناك ستكون في العمل وتعويض ساعات السفر بالنوم واختيار أماكن محدودة للزيارة فإنّ تكوين صورة واضحة عن البلد سيكون حتماً غير مكتمل ويتلطخ بالانطباعية أكثر من الموضوعية.

ولأنّه لا حيلة لي سوى أن أكون انطباعيًا في نقل ما رأيته وما شعرت به في بلد المليون ونصف المليون شهيد، فالبداية ستكون مع سائقي التاكسي الذين يكونون عادة العنوان الأول لانطباع السائح، فالسائق عادة يتحقق من سحنة السائح لكي يُحدد الأسلوب المُناسب المفترض اتباعه معه، ولأنّ كلمة عُمان تشبه عَمّان عاصمة الأردن فإنّ على السائح العُماني تحديد موقع السلطنة في ذهن السائق والذي غالبًا ما يكتفي بأنّها من دول الخليج، والخليجيون عمومًا نادرون في الجزائر العاصمة وأغلب الظن أنّهم يذهبون مباشرة إلى منطقة وهران - الأنسب سياحياً- التي تبعد 430 كم من العاصمة.

يقوم سائق التاكسي بتقديم معلومات أولية عن الجزائر من ناحية الإنجازات السياسية والثورية، ويُعدد الأعراق الموجودة بها سواء كانوا عربًا أو أمازيغيين أو من منطقة القبائل أو الطوارق في الصحراء، ويذكر بصوت خافت تلك الأعراق المُختلطة مع الفرنسيين إذ إنّ كلمة فرنسا تُثير نوعين من المشاعر لديهم: مشاعر السخط المتوجة بـ130 عامًا من الاستعمار، ومشاعر الرغبة في الذهاب إليها بحثًا عن العمل والاستقرار. ومازالت آثار الفرنسة الفجة ملاحظة في لغتهم العربية المسكونة كثيرًا باللغة الفرنسية مع بعض الألفاظ الدارجة، مع ملاحظة محاولاتهم المجهدة لدرجة الإقناع بتكلم اللغة العربية خالية من الفرنسية وذلك لاعتزازهم الكبير بعروبتهم.

مناخ العاصمة هو مناخ البحر الأبيض المتوسط المعتدل، تتراوح درجة الحرارة ما بين 24-27 في النهار، ولكن تتوقف الحياة التجارية والسياحية الساعة السادسة مساءً تقريبًا، حتى أن بعضهم يسمون العاصمة La Ville Morte أي المدينة الميتة، وحسب ما يذكره السائقون أنّ المدينة قبل عدة سنوات كانت تعج بالمطاعم الليلية والمراقص والملاهي إلا أنّ أغلبها تمّ إغلاقها دون تحديد سبب الإغلاق، كما أنّ عدد الفنادق قليل جدًا ربما لايتجاوز بضعة فنادق تتراوح بين 5 نجوم إلى نجمتين، ويلاحظ من عبارات السائقين ذلك السخط والغضب من هذه الإجراءات التي بحكم عملهم مضرة لهم.

عندما تتوجه إلى وسط مدينة الجزائر أو ما يسمى قلب العاصمة تشعر أنك في باريس بمبانيها القديمة وقببها القرميدية، الطرق مرصوفة بالأرصفة الرومانية والجدران تتخللها تلك الأبواب المرتفعة وترى المقاهي تترامى شمالاً ويميناً في جو باريسي بديع، وتجد بعض المكتبات الشرائية المملوءة بالكتب الفرنسية وحفنة من الكتب العربية المنتقاة بعناية خاصة مكتبة "العالم الثالث" التي لا يبشر اسمها من الخارج وتتفاجأ بغناها المتنوع بالكتب الرصينة من الداخل، كما أنّ هناك مكتبات ذات توجه إسلامي لكنها لا تخلو من حفنة من روائع الأدب العالمي مثل قصص قصيرة لغوستاف فلوبير وجي دي موباسان وبلزاك. وهناك أماكن سياحية ليست بالكثيرة مثل مقام الشهيد ومتحفه الذي يُعد نصبًا تذكاريا للثورة الجزائرية الذي افتتح عام 1982، وحديقة التجارب ونوتردام أفريقيا التي صممت كمحاكاة لنوتردام باريس. ومن أهم المشروبات المشهورة في الجزائر مشروب "حمود" وهو مشروب غازي تمّ صنعه عام 1889م أي بعد 3 سنوات من إنتاج الكوكاكولا، وينصح بشرب حمود بنكهة الليمون.

لثورة الجزائر أثر كبير على الشعب الجزائري، فهي تذكر بتلك الأيام التي افتقد فيها الجزائري أبسط حقوقه، ولهذا ترى سمة الكبرياء والأنفة في وجوههم وسلوكهم، وأحياناً عندما تذكر عدد الشهداء الجزائريين بالمليون مثلاً يكمل الجزائري العدد بالمليون ونصف مليون لتشعر بالذنب لنسيانك هذا النصف. والغريب أن هناك معالم تذكارية لفرنسيين شاركوا في الثورة الجزائرية ضد فرنسا مثل الفرنسي "موريس أودا" (1932-1957) الذي اعتقل من قبل القوات الفرنسية وعذب وتم إخفاؤه إلى الآن. وكذلك الفرنسي المارتينيكي "فرانس فالون" الذي سميت مدرسة في قلب العاصمة باسمه. وهناك أيضاً نساء جزائريات شاركن بالثورة ببطولة غير معهودة مثل المناضلة "نفيسة حمود" التي يُسميها الجزائريون بتشي غيفارا الجزائر وجان دارك، فهي ذات ثقافة وسحنة فرنسية شاركت في الثورة وكانت المُخطط الأبرز لحرب العصابات والممول الطبي والغذائي بسبب خلفيتها الطبية. وكذلك المناضلة الجزائرية "زوليحة عدي" (1911-1957) التي كانت مصدر قلق للقوات الفرنسية بسبب تكتيكها العسكري، وقد تمّ إعدامها رمياً بالرصاص وجُرّ جسدها في طرقات العاصمة وذلك لأخذ العبرة منها.

وللسائح الحق في السؤال عن مصير الفرنسيين المستوطنين في الجزائر أيام الثورة، وهم الذين يسمونهم الجزائريون بـ Les Pieds Noirs أو الأقدام السوداء، فقد كان عددهم أيام الثورة مليون نسمة وهم منحدرون من أصول مختلفة مثل الفرنسية والإيطالية والإسبانية، ولم يبق أحد منهم الآن على الرغم من مطالبتهم للحكومة الفرنسية والجزائرية بالتعويض عن الممتلكات التي تم تأميمها، ويعتبر الفيلسوف الفرنسي "جاك دريدا" منحدرا من ضمن هؤلاء المستوطنين ويسمون بمشاهير الأقدام السوداء.

يعشق الجزائريون الموسيقى وخاصة الموسيقى التقليدية "الراي"، ويعتلي القمة لديهم الشاب حسني محبوب الجزائريين الذي مات اغتيالاً لأسباب غير معروفة للآن والذي يعزوه البعض إلى العشرية المُظلمة في التسعينات أيام انفجار التيارات الأصولية، وكذلك لديهم الشاب عقيل الراحل أيضًا والشاب مامي والشاب خالد. وللسينما الجزائرية صدى عالمي واسع وهي الدولة العربية الوحيدة التي منحت السعفة الذهبية لمهرجان كان، ناهيك عن أدبائهم الكبار مثل محمد الديب المعروف شعبيًا وواسيني الأعرج وأحلام مستغانمي التي تمّ تسويقها في بلاد الشام أكثر من الجزائر على لسان أحد الجزائريين.

لا يأخذ السائح في الجزائر أي انطباع سيئ عن الشعب الجزائري، فهو مضياف ومتسامح بطبيعته، ويسألون السائح الخليجي عن مذهبه عادة إن كان شيعيًا أو سنيًا، فإذا كانت الإجابة بأنك إباضي مثلاً فلا يتملكهم الذهول، بل يحيلوك مباشرة إلى مدينة "غرداية" التي يكثر فيها الإباضيون في الجزائر. ويشتكي الجزائريون من قلة الانفتاح السياحي وخاصة عمال الفنادق عندما تسألهم عن أهم الأماكن السياحية، ويتفاخرون عادة بثروتهم النفطية والغازية مع الإشارة إلى المسافة الطويلة للساحل المطل على البحر الأبيض المتوسط الذي يبلغ طوله 1600 كم وتحسرهم على عدم استغلاله بالمقارنة مثلاً مع جارتهم تونس.

تعليق عبر الفيس بوك