من هنا نبدأ طريقنا للمستقبل

د.عبد الله عبد الرزاق باحجاج

فرجة الكل على الغش في الامتحانات، وشراء البحوث الجاهزة بعلم المُعلمين والأسر، وظاهرة الدروس الخصوصية، وضعف المهارات الأساسية عند الطلاب، وحالات التَّسرب، والعنف المدرسي، وهجرة المُدرسين العمانيين عن مهنة التدريس، وظواهر التدخين والشيشة والسويكة عند الطلاب .. وسهر الأطفال والشباب حتى إلى ما بعد منتصف الليل .. كلها شواهد تدلل على الوضع التعليمي في بلادنا، وعلى المواقف السلبية الخالصة لأطراف العملية التعليمية في بلادنا .. الكل دون استثناء .. أين الخلل؟.

هل في المُعلم، الطالب، الإدارة المدرسية، المنهج، الحصة المدرسية، السلوك، المنزل، المجتمع، الوزارة، مجلس التعليم .. إلخ الوضع وصل بالكل إلى الحيرة التامة بسبب تراكماته وتجذُّر تداعياته في كل تلك البنيات مع اختلاف النسبة والتناسب .. دون التعميم، فلو أخذنا الغش في الامتحانات مثلاً، فسوف نجد أن إدخال الأجهزة الإلكترونية للرقابة لم تحل المشكلة، لماذا؟ لأنّ المشكلة ليست حالة استثنائية وإنما تتعلق بمنظومة متكاملة ينبغي أن تعالج وتصحح كاملة، وهناك توجيهات سامية منذ عام 2011 بتطوير التعليم في بلادنا، ولا تزال الجهود في طور التنظير والنظرية رغم مرور ست سنوات على تلك التوجيهات، فهل المنظرون يدركون تمامًا الواقع التربوي والتعليمي في بلادنا حتى يؤجلون التطور طوال تلك السنوات أو ينظرون له من بناهم الفوقية؟ حتى الآن نسمع عن إستراتيجية التعليم الجديدة 2040، لكن الواقع لا يزال تتجاذبه تلك الظواهر التي تتجذر تداعياتها في الأعماق البنيوية كل سنة، ربما علينا الرهان على إعادة هيكلة منظومة التعليم بمختلف أنواعه ومراحله، فأين هي هذه الهيكلة من تلك الظواهر؟ هل تملك معالي وزيرة التربية والتعليم الصلاحية للرد على استفسارات أعضاء مجلس الشورى أثناء استضافتها أمس واليوم بشأن الإستراتيجية التعليمية 2040 والهيكلة الجديدة للتعليم أم أنّه كان ينبغي أو بالتزامن، مناقشة مجلس التعليم أولاً؟ وهل الإستراتيجية والهيكلة الجديدتين ستتمكنان من تطوير نظام تعليمنا حتى يكون على الأقل ضمن أفضل (50) نظامًا في العالم وليس (20) نظامًا، لسنا في حاجة إلى معجزة حتى ننتشله من مركزه الحالي الذي تصنفه بعض التقارير العالمية بأنه يحتل المراتب الدنيا رغم أنّ هذا التصنيف لا تقبله الوزارة، ورغم أنه لا يزال يصدمنا كثيرًا، إلا أنه علينا تقبله إذا أردنا التطوير المنشود، ومهما كانت تحفظاتنا عليه، إلا أن الواقع التعليمي الذي نعيشه - ميدانياً - وتلكم ظواهره - لا يمكن السكوت عليه، ولنبدأ به أولاً، وكان ينبغي البدء به في الوقت الذي شرعنا في التفكير في تطوير التعليم بعد التوجيهات السامية، لأنّ ذلك سيعكس لنا قوة إرادة التطبيق قبل التنظير، وهي التي ينبغي أن نظهرها حتى نبعث برسائل قوية لكافة أطراف العملية التربوية والتعليمية، وكان ينبغي على مجلس الشورى استدعاء مجلس التعليم لأنّ قضيتنا الأساسية في التعليم لها شقان، الأول، يكمن في السياسات والإستراتيجيات التعليمية والثاني، في التطبيق، فمجلس التعليم هو المرجعية الأساسية الأولى لوضع سياسات التعليم ومواءمة جهود كافة الوزارات المعنية بقطاع التعليم، من هنا، ينبغي مساءلته عن دوره في تطوير التعليم منذ صدور توجيهات عاهل البلاد بالتطوير عام 2011، فالنقاش الوطني الملح الآن ينبغي أن يكون مع مجلس التعليم حول قضية واحدة فقط، وهي إستراتيجية التعليم 2040 وإعادة هيكلة التعليم، وهل يمكن أن نراهن عليهما في الإصلاح المجتمعي وفي التأقلم مع رهانات التنافسية العالمية حتى يمكن بناء اقتصاد وطني بقوته البشرية المؤهلة؟ حصر اهتمامات مجلس الشورى في إحداث النقلة التطويرية(الفارقة) هو الأهم الآن بدلاً من أن يدخل نفسه في قضايا جدلية ستكون تحصيل حاصل للتطور، وحتى مناقشاتهم مع معالي الوزيرة ينبغي أن يكون لتلك الظواهر حصة الأسد فيها خاصة بعد ما فشل مشروع الرقابة الإلكترونية على الامتحانات في القضاء على ظاهرة الغش - من منظور الجهة الإقليمية التي نراقب بها الوضع - فتلك الظواهر تصنع - للأسف - أجيال المستقبل ..ولنا تصور منتوجاتها؟ حتى لو نسخنا النظام التعليمي الفنلندي أو الكوري الجنوبي أو السنغافوري .. وهي الأنظمة العالمية المتقدمة، وأدخلنا عليها مع ما يتناسب مع بيئتنا العمانية، فلن تنجح في بيئة تلك ظواهرها، المطلوب من مجلس الشورى حمل وزارة التربية والتعليم على العمل فورًا على تنظيف البيئات التعليمية من تلك الظواهر كمُقدمة تبعث برسائل في كل الاتجاهات على نية وجدية تصحيح وتطوير التعليم، وهذا دور مجلس الشورى إذا كان يستشعر بخطورة تلك الظواهر على مستقبل بلادنا، وإذا كنتم تستشعرون مثلما نستشعر، فينبغي المُبادرة بالتعاون مع الوزارة ومجلس التعليم إلى استصدار قانون ردعي زاجر للقضاء على تلك الظواهر كالطرد من الدراسة لفترة زمنية سنة أو سنتين أو حتى العقوبة الحبسية وفق شروط معينة، كما الجأت إليها أحدى الدول المغاربية، شريطة أن تكون تلك الخيارات الوحيدة للحفاظ عقول الدولة وقوتها المستقبلية، سنواجه في البداية إشكاليات في الميدان، كأن يدفع بعض أبنائنا أو معلمينا الثمن، وهذا الثمن الذي يجب أن ندفعه من أجل استدراك الأخطاء، ودون ذلك، لا يمكننا أن نخلق البيئات النفسية الملائمة للتصحيح والتطوير، ولا حتى نجاح أية عملية تطويرية جزئية، من هنا نوجه للوزارة الرسالة التالية، وهي أن اهتمامك الآن ببناء معايير المناهج الدراسية ومراجعة تقييم الأداء وأساليب التقويم .. إلخ لن تؤتي ثمارها ما لم نعالج تلك الظواهر بجدية غير مسبوقة وبمعاقبة رادعة.

صحيح، بدأنا التعليم من الصفر، ونفتخر الآن، بإنجازات، توفر فرص التعليم للكل ولكلا الجنسين على قدم المساواة، وتخفيض نسبة الأمية التقليدية .. إلخ لكن، تلكم كانت أهداف المرحلة التأسيسية للنهضة العُمانية المعاصرة التي انطلقت من بعد فلسفي شهير أطلقه عاهل البلاد -حفظه الله ورعاه- "سنعلم أبناءنا لو تحت ظلال الشجر" ولن نجد قرية في أية بقعة من بلادنا المترامية الأطراف إلا وفيها المدارس .. وقد آن الأوان لبلادنا الانتقال لمواجهة تحدياتها على مختلف الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، تحتم نقلة نوعية وكمية للتعليم وفق رؤية حددتها معالي وزيرة التربية والتعليم في عدة مناسبات عندما قالت،، إنّ نظامنا التعليمي لا يعد الطلبة للنجاح والتفوق في الاختبارات فقط، وإلا لكان ذلك أمرًا ميسورًا، فمهمة التربية والتعليم تتجاوز ذلك إلى غاية تتعلق ببناء الإنسان ذاته وصقل قدراته .. إلخ لكن، هل فعلاً ينتج لنا هذا النظام هذا النوع من الإنسان؟ رؤية معاليها لم تنزل إلى الحقل التربوي والتعليمي في بلادنا، ربما هو طموح، لكنه يحتاج إلى شروط ومتطلبات لنجاحها، فتراكمات الحقل التعليمي (نكرر) عميقة ومتجذرة، وتحتم حل جذري وقوي، وليست حلول منفردة، ولن نبني إنساناً مهما كان نظامنا التعليمي متقدمًا، مالم تكن بيئات هذا النظام الحاضنة صالحة له، وهي ليست كذلك - لا نُعمم - لكن الحالات كثيرة، والكثير مؤثر جداً على كل منظومة البنية التربوية والتعليمية، وحتى العقوبات الرادعة لن تكون كافية ما لم نُشرك المؤسسات المحلية كالمجالس البلدية ومؤسسة الشيوخ في إدارة عملية التطوير والإصلاح كل في ولايته مع تدشين حملة وطنية إعلامية على مدار العام للتوعية الاجتماعية بأهمية دور الأسرة التكاملي وبالذات الآباء في نجاح المنظومة التعليمية في بلادنا ..للموضوع تتمة .

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة