د. سيف بن ناصر المعمري
يقول الروائي البرتغالي "جوزيه سارماغوا" في روايته الشهيرة التي عنونها بـ "العمى: "ما أصعب أن يكون المرء مبصراً في مجتمع أعمى"، مجتمع يُمارس العمى بطريقة مُتعمدة ومقصودة رغم كل المواقف التي يتعرض لها في كثير من جوانب الحياة، مجتمع لا يُريد أن يبصر إلا في اللحظة التي يمكن أن تكون ذات فائدة له، حينها فقط يخرج من حالة العمى الشديد، ويربكنا لأننا نكتشف أنّه "مبصر"، ولديه الكثير مما رآه ونحن كنّا نظن أنّه أعمى، ولا أحد أسوأ من أعمى إلا أعمى يرى كما يرى سارماغوا الذي يقودنا إلى سؤال جدًا عميق حول وضع المدينة أو البلد التي يصبح سكانها فجأة عميان، كيف يمكن أن تصبح الحياة في هذه المدينة؟ وهل يمكن بالفعل أن تجعل الحياة طبيعية فيها، مليئة بالمشاعر والأحاسيس أم أنّ المشاعر السلبية تسيطر على سكانها مما يجعلهم يعيشون عوالمهم الانعزالية الأنانية دون التفكير في الرابط الذي يربطهم ببعض، أخشى ما أخشاه على هذا الوطن من حالة العمى الجماعي التي يُعاني منها المبصرون، لأنّ حالة العمى تعيق استغلال الفرص المُمكنة، وتعطل أكثر مما تمكن، ويصبح العمى عدوى تنتقل من فرد لآخر، ولا أحد يكترث لشيء إلا لنفسه.
ولذلك إن كنت مُبصرًا في مجتمع أعمى فالخيارات أمامك محدودة جدًا، إما أن تصبح أعمى مثل البقية، ولا ترى الوردة لكن ترى أشواكها، أو أن تحاول بكل ما تستطيع أن تقنع "العميان" بخطورة ما يمارسونه من "عمى" عليهم ومجتمعهم والمؤسسات التي ينتمون إليها، وفي كلا المسارين هناك عقبات وتحديات لابد أن تتحملها وتواجهها، فلو أصبحت أعمى فأنت تصادر ضميرك الأخلاقي من أجل مصالح ضيقة جداً تحققها، كما تصادر مسؤوليتك الوطنية في العمل بإخلاص تحت أي ظرف من أجل تعزيز وجود وطنك، ولا تقوم بأيّ دور لإصلاح ما ترى به ضعفاً، وتعمل على حرمان مؤسستك من أي إمكانات قد تُفيدها وتنهض بها سواء كانت بشرية أو مادية لا شيء إلا لأنك تبصر لكن لا ترى شيئًا مهما يجب عليك أن تفعله، بل إنّك لا ترى شيئًا ذا قيمة في وطنك، فكل شيء يُغطيه السواد، ولا أمل ولا فرص يمكن أن تستغل، وتجعل الآملين في الإبصار يفقدون أملهم، فكيف يمكن أن تقنعنا بأنّك مبصر وأنت تقوم بكل ذلك؟ أما إذا قررت أن تعمل على إقناع العميان بخطورة "عماهم" على من حولهم فعليك أن تكون صبورا ومخلصاً وعليك ألا تتوقع أن الجميع سوف يقبل ذلك، وعليك - مهما كانت الظروف- أن تلجأ إلى الحوار ولا شيء غيره من أجل انتشال هؤلاء من حالة العمى التي يمرون بها، ولا تتخلى عن هذا الواجب مهما كان الثمن الذي ستدفعه، لأنّ أيّ وطن لا يمكن أن يقوى ويتطور بدون ثمن، ولم يعرف التاريخ أن أوطاناً تقدمت واستقرت بدون تضحيات جسام، وأسوأ ما يمكن أن يمر به المبصر في مثل هذا النوع من المُجتمعات هو حالة الإحباط واليأس نتيجة صعوبة المهمة، وقوة المقاومة، لكن لابد من التسلح بالإرادة لأنّ قيادة أعمى مُبصر أصعب من قيادة أعمى لا يرى.
لا إشكالية في وجود صعوبات وأزمات، فهذه حالة تمر بها كثير من دول العالم، ولكن الإشكالية الحقيقة التي يمكن أن يمر بها بلد هي في حالة العمى التي قد تصيب سكانها، وتجعلهم لا يرون شيئاً إلا بطريقة ضبابية لا تعبر عن قدرة على الرؤية بطريقة واضحة، أو لا تجعلهم يرون الأدوار التي يمكن أن يقوموا بها، أو لا تجعلهم يعرفون الأساليب والعادات الحياتية والعملية التي يجب أن يُغيروها، أو لا تجعلهم يرون ألا شيء يمكن أن يتحقق إن كان فقط من اتجاه واحد، فلابد من الشراكة والتعاون، أو لا تجعلهم يرون أنّ التحديات هي فرص ثمينة يجب اقتناصها لتحقيق نجاحات ما كانت لتحدث لولا هذه التحديات، مما يقود إلى بث كل هذا القلق من الحاضر والمستقبل، وإلى تكريس العجز والإحباط، وإلى قتل الأمل حتى قبل أن يُولد، فما الذي نصنعه بأنفسنا؟ وما الذي نصنعه بوطننا؟ وما الرسائل التي نبعثها إلى هؤلاء الشباب الذين يقدر عددهم بالآلاف في الجامعات والكليات؟ إننا نمر بمرحلة تحول لا رجوع عنها، ولا يمكن أن نستعيد الماضي لنغير فيه ما ننتقده اليوم، لكننا نملك الحاضر الذي مهما كانت فرصه محدودة إلا أنها قابلة للتحقيق، وحري بنا إلا نضيع الوقت في كل هذا الإفراط في "تسويد الواقع"، لأننا إن لم نتعلم أن نرى في الظلام وفي أصعب الأوقات لن نتمكن أن نرى في النور حيث لا صعوبات ولا تحديات.
"إن هناك أوقاتاً لا يُفيد فيها الكلام" على حد تعبير سارماغوا، وإن كان لابد من الكلام فليكن محفزاً باعثاً على الأمل، ليكن مقتصداً ومربحاً، لا يؤدي إلى خسارات أخرى، ليكن بناءً لا يقود إلى فرز وتصنيف وتقسيم، وتنميط وتكذيب، وتخوين، وتهويل، وتحذير، وتضليل، فهذا هو وقت لا يفيد فيه إلا العمل والعمل الدؤوب لإنجاز أشياء كثيرة لم تنجز من قبل، وللتعود على أشياء صعبة لم يتخيل الإنسان أنّه سيأتي يوم يتعود عليها، ومن أجل ذلك لابد أن نبصر جيدًا ما يجب علينا فعله.