رشيد الخيون
في أبوظبي وجدت الأهوار موثقة، بعد جفاف جداولها العذبة، في مجلة "العربي" الكويتية، في عددها لشهر مارس 1966. فقبل خمسين عاماً زارت المجلة منطقة "الجبايش"، ووثقت بيئة الأهوار، غابات البردي والقصب، والجداول، والأحياء المائية، والطيور المتنوعة، والزواحف، والأسماك.. وإثر صدور العدد زار المنطقة سفراء العالم ببغداد، وحينها سُميت "الجبايش" "عروس الأهوار"، فالأهوار مسطحات مائية شاسعة بين البصرة وذي قار وميسان، وهي تقع في قلبها.احتوى معرض أبوظبي للكتاب ألفاً ومائتي دار نشر، وواحدة منها اختصت بعرض الكتب القديمة، لمحت مجلة "العربي"، وعثرتُ على عدد خاص عن ليبيا قبل انقلاب القذافي (وتحديداً في عام 1967)، وعلى الغلاف صورة طالبات الجامعة، كأنهن في جامعة أوروبية، مع خطبة الملك لتطوير التعليم، فناديت على الدُّكتور محمد عبد المطلب الهوني: "انظر تاريخ بلادك زمن الخير". عندها حدثني عن الفرق بين ذلك التَّاريخ وما بعده، كالفارق بين زمن اخضرار الأهوار وجفافها، حتى تحول البردي الناعم إلى "عاقول" خشن. بقيت أبحث عن العدد الخاص بالأهوار فوجدته، ولو لم أكن عشت تلك المشاهد لقلت هذا من نسج الخيال، فلك أن تتصور الفاجعة، أن تختفي بيئة ساحرة وطباع وحِرف استمرت من عهد قديم، ولم يبق منها سوى هذه الصور. كانت قناة "العربية" تسجل برنامجاً: "لماذا تكتب؟" والشَّاهد بيدي، أخرجت المجلة، وقلت: لأجل هذا أكتب، خشية مِن ضياع ما حولنا، أملاً بقادم يجعل الماضي متكأً له، ويعيد تركيبه ثانية وفق الصور على "أمل وإن كان لا يجدي".
كانت صفحات المجلة، في مخيلتي، ليست ورقاً إنما أحجار صُلد، كأحجار سومر وبابل، التي حفظت نقوشها ذلك التاريخ الزائل منذ عشرات القرون. عثرت على صور أصدقائي ومدرستي ومعلمات ذلك الزمان، تعجبت كيف تغير النَّاس وتراجعوا، كانوا أنيقين ممتلئين بالعافية. كيف كان هندام معلم الابتدائية فاخراً، وهو يعلم الأطفال داخل بيت القصب، بعيداً عن عيون المسؤولين، لكنه أمام مهمة، كيف له يحاسب تلاميذه على نظافة أيديهم وحِسن الهندام وهو لا يلتزم به.
انظروا اليوم إلى مدارس الأطفال، ليس في عمق الأهوار القصية، وإنما في مركز بغداد العاصمة، ماذا ترون؟ معلماً أشعث يلبس ما يريد، ويُعلم تلاميذه ما يُعشعش في رأسه مِن أراجيف! أنظروا إلى معلمة الأمس، قبل خمسين عاماً، تجدونها أنيقة تعلم تلاميذها بثقة إلى المستقبل، بلغة خالية من الشعوذة، وروح الكراهية.
بلا شك، تُعد معارض الكتب مواسم حصاد للتأليف والطباعة والنشر، وصار معرض أبوظبي، وقد انتهت دورته (26) قبل أيام، أحد أبرز المعارض بالمنطقة، وفي هذا العام كان شعاره الرسمي: "نحن نقرأ"، بينما ببغداد تبنى المبادرة شباب يجمعون الكتب ممن يستغني عنها، ويفرشونها على الأرصفة تحت شعار "أنا عراقي أنا أقرأ"، لعلهم يتمكنون من التذكير بالحرف وبالمجد المنهوب، ويحرك ضمائر الجماعات الدينية صاحبة المال والسلاح.
عن تاريخ معارض وأسواق الكتب، يُذكر حسب "تاريخ معرض فرانكفورت للكتاب" (هيئة أبوظبي للثقافة والتراث)، أنه أُفتتح عام 1370 ميلادية، وقد يكون أول المعارض في التاريخ، وكان يتطور بتطور الطباعة، ومازال مستمراً إلى يومنا هذا. غير أن في ماضينا الغابر ما يضاهي ذلك الإنجاز، فمن قبل كانت بغداد تعرف سوق "الوراقين"، وقد ذكر التوحيدي (ت 414هـ) عن "رسائل إخوان الصفا": "وكتموا فيها أسماءهم، وبثوها في الوراقين" (الإمتاع والمؤانسة)، أي أسواق الكتب.
كانت تجارة الكتب رائجة، والتباهي بالمكتبات معروفاً، ويُروى عن صاحب "الأغاني" أبي فرج الأصفهاني (ت 356هـ): "كان يدخل سوق الوراقين وهي عامرة، والدكاكين مملوءة بالكتب، فيشتري شيئاً كثيراً من الصحف ويحملها إلى بيته، ثم تكون رواياته كلها منها" (البغدادي، تاريخ بغداد). وشغفاً بالكتب قال أحدهم: "أَقمت منادياً بعرفات ينادي، والناس حضور، من الآفاق على اختلاف بلدانهم وتنازح أوطانهم، وتباين قبائلهم وأجناسهم من المشرق إلى المغرب، ومن مهب الشمال إلى مهب الجنوب، وهو المنظر الذي لا يشابهه منظر: رحم الله من دلنا على كتاب الفرق بين النبي والمتنبئ لأبي عثمان الجاحظ على أي وجه كان" (الحموي، معجم الأدباء).
كانت تلك المجلة بمثابة "حجر رشيد"، حفظت بيئة سادت ثم بادت، بسبب معارضة اختارتها وكراً ونظاماً انتقم منها، فكانت ضحيةً. قال لي صاحبي ونحن نتصفح المجلة، وقد لاحظ اللهفة والألم في عيني: ماذا لو كانت تلك البيئة الساحرة في أبوظبي بالفعل؟ قلت مَن يحول الرمال والأملاح إلى مدن زاهية، سيجعلها قبلة للباحثين عن سحر الشرق ودفئه.