رحاب أبو هوشر
ما يعرفه معظم الشبان والشابات الصغار، وحتى الأطفال، عن الفن اليوم، ينحصر في الغناء الرائج، والمسلسلات التركية والكورية المدبلجة، أو المسلسلات العربية في رمضان، وسينما يمكن مشاهدة أفلامها الخفيفة، إذا ترافقت مع تناول "الفيشار" والمشروبات الغازية. الفن لا يزيد على أن يكون ترفيها وتسلية بالنسبة لهم، وفق ما حدده لهم مناخ عام متدهور، وجدوا أنفسهم يعيشون معطياته ومخرجاته، أسهمت في تكريسه وسائل الإعلام. سيكون من الحالات النادرة والمثيرة للدهشة، وجود فتى في الثانوية، يمكنه ذكر أغنية لأم كلثوم، أو يقول أنه يستمع لأغنياتها أحيانا، أو فتاة في السنة الجامعية الأولى، تذكر السيدة "فيروز" ضمن من تستمع إليهم من المغنين، فمعظمهم لا يعرفون حتى أسماء أي من المطربين، الذين قدموا الفن بوصفه قيمة جمالية وإنسانية، ناهيك عن عزوفهم عن التجارب الغنائية الجادة والمختلفة، التي تبقى معزولة في أوساط نخبوية، بينما يمكنهم ذكر عشرات من الرداءات، التي يسمعونها بوصفها غناء، بل وبوصفها الفن. أما البحث بينهم على من يسمع مقطوعات موسيقى، أو من يعرف أسماء موسيقيين، فسيكون مثيرا للسخرية.
مجموعة من الصغيرات كن يلعبن، ويغنين أغنيات ترددت على أسماعهن حتى حفظنها، وعلت أصواتهن بغنائها بتلك الحماسة والفرح. والغريب أنها لم تكن أغاني أطفال، بل كلها من أغاني "الكبار"، ولم أكن أعلم أن الأغنية الهابطة الذائعة، "أنت معلم"، تملك رصيدا كاسحا لدى الأطفال أيضا، حتى سمعتهن يغنينها، فقد كنت أظن أن الافتتان بالرداءة مقتصر، على المشاهدات الألفية والإعجابات المليونية لتلك الأغنية، على موقع "يوتيوب".
ولكن، من أين لأولئك الصغيرات أن يغنين شيئا مختلفا، وكيف تكون للشبان والشابات ذائقة فنية، وثقافة موسيقية وغنائية رفيعة، بل كيف يملكون وعيا بالفن، ويعلمون بأن الرسم والنحت والرقص والتمثيل كلها فنون أيضا، وهم يخضعون لنظام تعليمي يضمر عداء للفن. وإن أقره نظريا وأدرجه ضمن المنهج التعليمي، إلا أنه يستخف به عمليا، فمادة الفن في المدارس العامة، من الزوائد التي لا تضر ولا تنفع، ويمكن لأي معلم/معلمة، مهما كان تخصصه، أن "يشغل" حصتها. حصة حرة، تمثل فراغا يمكن ملؤه بأي شيء، وتصلح لقيام الطلاب بكنس الصف مثلا، أو تنظيف الساحة المدرسية، ويمكن أن يستغلها المعلم لإنهاء بعض أعماله الخاصة أو إجراء مكالمة هاتفية. وإن سألنا أي طالب عن مادة الفن، فسيجيب بأنه يرسم من حين لآخر عند طلب المعلم، ولأنها مادة أكثر من ثانوية، فإن علاماتها تحسب وفق تحصيل الطالب في المواد الأساسية الأخرى. أما تدريس الموسيقى في المدارس العامة، فهذا ما زال حلما بعيدا.
ورغم إهمال تدريس الفن، إلا أن العملية التعليمية كانت في سنوات مضت، تتضمن هامشا من الاهتمام بمواهب الطلاب الفنية، كالرسم والتمثيل المسرحي والخطابة والغناء، كان يسهم في خلق وصقل ذائقة الطالب، لكنه اهتمام انحسر مع هيمنة خطاب ديني أصولي يحرم الفن ويزدريه، في المدرسة والمجتمع، ومع انحدار اجتماعي وثقافي عام، ليستقر فهم بدائي للفن، يحصره في الغناء، باعتباره أحد اللوازم الفلكلورية للمناسبات والأعراس، كالطعام والملابس، وهذا في أكثر حالاته الاجتماعية قبولا واعترافا، وعلى الجهة الأخرى، أصبح الغناء عريا وابتذالا كأننا في علب ليل متهتكة، أو حافلا بمفردات القاع وإسفافه. وفي كل الاتجاهات، تغيب أي قيمة جمالية أو إنسانية، ويغيب الفن، وتحضر التسلية، وتغيب المتعة والترفيه.
ثمة فارق كبير بين الفن والترفيه، وإن كان الفن ثقافة وقيما جمالية وفكرية، فإن للترفيه أيضا معاييره حتى يكون ترفيها لائقا، على أن ما يحيطنا بدءا من معظم محتوى الشبكة العنكبوتية، وما تضخه الفضائيات تحت مسمى الفن، أو ما تذيعه محلات التسجيلات في الشوارع، وصولا إلى الحفلات، كل ذلك لا يمت بصلة سواء للفن أو الترفيه. إنه الصورة الزاعقة لقبح الواقع، أصوات بشعة، وضجيج يسمى موسيقى، وكلمات غريزية بذيئة، أو كلمات ساذجة ومفككة بلا معنى. زار من الفوضى والهلوسة والبدائية يسمى فنا.
"فن" الخراب والاضمحلال الذي يعيشه المجتمع، وتجهيل يمارس على جيل متروك، بلا ذاكرة يلتجئ إليها، أو حاضر متماسك قوي. يحاصر بكل أسباب الخواء، فلا يصفق إلا للخواء. من سوء حظ معظم هذا الجيل، أنه سيذهب مخفورا بأميته الثقافية إلى المستقبل، وسيشكل "فن" التجار البدائيين ذاكرته الفنية.