المجتمع اللامدني يبحث عن المجتمع المدني

د. سَيْف المعمري

فِي هذه اللحظة التي نُواجه فيها هذه التحديات الاقتصادية وما يُصاحبها من تحديات طالت مختلف القطاعات الثقافية والفكرية والمجتمعية، يتطلَّع المواطنون إلى الحكومة لمواجهة كل ذلك، وفي الوقت الذي يتكلم فيه البعض عن دور القطاع الخاص، لا أحد إطلاقا يتكلم عن دور المجتمع المدني في مساعدة المجتمع في مواجهة التحول من عصر الفورة النفطية إلى عصر الندرة النفطية وما يصاحبها من إشكاليات وتحديات، وتزاد الإشكالية حين نجد أن ما يطلق عليه "المجتمع المدني" أيضا لا يقدم مبادرات يمكن أن يثبت من خلال وجوده ويعبر عن رسالته المهمة.

لذا؛ فالسؤال الذي يجري هو: أين المجتمع المدني من كل ما يجري؟ هل يستشعر القائمون على جمعياته المختلفة أن هناك دورا يمكن أن يقوموا به في مواجهة تحديات هذه المرحلة؟ أم أن حالة "الاغتراب" طويلة الأمد التي يعيشها ما يسمى "المجتمع المدني" تجعله غير قادر على بلورة رؤية يمكن من خلالها المساعدة في تحمل التبعات ومواجهة التحديات، وفي ظل هذا "الغياب"، و"الاغتراب" يتساءل البعض: هل بالفعل لدينا مجتمع مدني في عُمان؟ أم أن ما يوجد هو مجتمع تقليدي يلبس عباءة مدنية؟

... إنَّ تعزيزَ دور المجتمع المدني في عُمان يتطلب تقييما حقيقيا ومنهجيا؛ من أجل التعرف على الواقع الحالي، وتحديد خريطة توزع هذا المجتمع في مختلف أنحاء الأرض العُمانية، وتعرف مساراته المدنية، وإداراته، وفاعليته في تحقيق الرخاء العام وهذه مفاتيح أولية لأي تطوير لهذا المجتمع المدني، ومن أجل تحقيق هذا التقييم لابد من التركيز على النقاط الآتية:

- مراجعة المفهوم السائد للمجتمع المدني في عُمان؛ حتى لا نأخذ بالمفهوم الغربي دون المدنية التي يطلبها في الإدارة والتشكيل والرسالة، وإن لم نجد المفهوم يعكس التصور الغربي للمجتمع المدني، فلا بأس أن يكون لدينا مفهمونا العُماني للمجتمع المدني، ونعززه بالتجارب والممارسات التاريخية التي عرفها العُمانيين؛ لأن هذا الوصل التاريخي يعكس خصوصية المجتمع التي توفر مقومات القوة والتمكين، من حيث الانتماء للبيئة ومتطلباتها.

- مراجعة التشريعات التي وُضِعت لهذا المجتمع المدني: هل هي تشريعات محفزة؟ أم هي تشريعات معيقة؟ فالإطار القانوني مُهم جدًّا لتطور المجتمع المدني؛ فلا يعقل أن توجد عشرات الفرق والمجموعات التطوعية تعمل أعمال مميزة للمجتمع أحيانا، ولكن بدون غطاء شرعي، حيث يغض الطرف عنها عندما لا تثير أعمالها أية تأويلات أو تفسيرات، ولكن يسحب البساط عند أول تفسير وتأويل؛ مما يحرم المجتمع من الجهد الذي تقوم به، ويتحول العبء على الحكومة التي ربما لا تملك قدرة الاستجابة السريعة لكثير من قضايا واحتياجات المجتمع المحلي المتجددة لذا؛ فإنَّ هذا الوضع ليس في صالح الدولة، ولا في صالح المجتمع، وحين تراجع تشريعات هذا المجتمع لابد من الوعي بأهميته هذا القطاع للدولة حتى توضع تشريعات محفزة لنموه، وتكونه.

- مراجعة إدارات جمعيات المجتمع المدني؛ فالأصل في هذه الإدارة أنها ديمقراطية في كل ما تقوم به، بل إنَّها تمثل الجنين الديمقراطي الذي يفترض أن يساعد عندما يشب على تعزيز الممارسات الديمقراطية في مختلف المؤسسات، ولكن هناك أحاديث كثيرة سمعناها من أعضاء هذه الجمعيات حول الإدارات المدنية غير الديمقراطية؛ حيث ينفرد فرد أو مجموعة من الأفراد بجمعية لسنين طويلة ينظرون إليها على أنها حقٌّ مُكتسب لهم، لا يجب أن يُنازعهم فيه أحد من العالمين؛ مما يقضي على أهم مبدأ تقوم عليه هذه الجمعيات وهو المبدأ الديمقراطي والتداول الدوري للإدارة؛ مما يُزيد من فرص تحقيق الرسالة التي وجدت من أجلها هذه الجمعيات.

- مراجعة أنشطة هذه الجمعيات وفعالياتها من خلال طرح أسئلة بسيطة عليها؛ منها: أين الخطط السنوية لها في تطوير المجتمع؟ ما الذي فعلته من أجل تحقيق الصالح العام؟ لأنَّ عدد هذه الجمعيات اليوم يزيد على 150 جمعية، ومعظمها يوجد في العاصمة مسقط مما يجعلنا نشعر بقوة هذا العدد في تفعيل مجريات الحياة العلمية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية طوال العام، ولكن الأثر على أرض الواقع لا يزال محدودا، مما يكوِّن كثيرًا من النظرة السلبية لأدوار هذا المجتمع، وكأننا نتكلم عن مجتمع مدني لكننا غير قادرين على إرساء الممارسات المدنية.

- إنَّ التساؤلَ عن المجتمع المدني يرتبط بضعف الانتماء المدني، والذي يُمكن البرهنة عليه من خلال الانخراط في عضوية هذه الجمعيات وأنشطتها؛ فعدد الأعضاء حسب -إحصائية نشرتها جريدة عُمان في نوفمبر 2014- لا يتعدى الـ19 ألفاً، وهذا الرقم يحتاج للتحقق من مصداقيته؛ فلماذا تدنِّي الرغبة في المشاركة المدنية؟ الإجابة عن هذا السؤال مهمة للدولة بشكل عام؛ لأنها تعكسُ ضَعْف التحول إلى الممارسات المدنية رغم تزايد عدد المتعلمين خلال العقود الأخيرة، أليست ظاهرة تستحق الدراسة، نحن نأمل اليوم أن يكون جميع طلاب الجامعات والكليات أعضاء في جمعيات مدنية يخدمون وطنهم ومجتمعهم، لكن لا نجدهم فيها؛ فحدود مشاركته هي في جماعات طلابية لا تتعدى أنشطتها أسوار جامعاتهم وكلياتهم، هل هذا هو الاستثمار الحقيقي لهذه الثروة البشرية؟ الإجابة حتمًا لا، والأمر يتطلب تدخلاً للتسويق لفكرة المجتمع المدني داخل هذه المؤسسات التعليمية؛ من خلال إقامة معرض سنوي لجمعيات المجتمع المدني، يتعرف فيها الطلاب عليها، ويقومون بتسجيل العضوية فيها، وتمنحهم الجمعية شهادة تثبت فاعليتهم بها، توضع كمتطلب مساعد لشغل أي وظيفة حكومية في المستقبل.

- كما أنَّ المجتمع المدني يحتاج لأن يستشعر الرسالة الكبيرة التي يحملها وهي أنه يمثل قطاعًا منوطًا به -إلى جانب القطاع الحكومي- القيام بعملية التنمية؛ فهو شريك أساسي في تحقيق الأهداف التنموية، وأتمنى أن تركز كل الإستراتيجيات على أدواره حتى لا يظل عبارة عن جمعيات تقيم فعالية أو اثنتين دون استشعار الرسالة العظيمة التي يجب عليها أن توصلها، وإذا كان هناك اليوم مُطالبون بزيادة أعداد الجمعيات، فعلينا أن نكون واقعيين: لا نريد زيادة في الأعداد دون أن يصاحبها زيادة في الفاعلية.

- أيضا هناك نقطة مهمة جدًّا لابد أن نأخذها بعين الاعتبار في تقييم وضع جمعيات المجتمع المدني ألا وهي: التدريب والتأهيل؟ مَنْ المسؤول عن تدريب كوارد هذه الجمعيات حتى يديروا هذه الجمعيات بما يمكنها من تحقيق أهدافها؟ إنَّ طرحَ هذا السؤال مرده أنَّ كثيرًا من أسباب ضعف هذه الجمعيات هو قلة الخبرة الإدارية والمالية للقائمين على هذه الجمعيات؟ لذا؛ يُمكن طرح بعض الحلول للتغلب على هذه الإشكالية، وأحد هذه الحلول هو الاستفادة من فرص التدريب التي تقدمها المؤسسات المحلية، ويمكن عمل شراكات مع منظمات عالمية من أجل التدريب؛ لأنه كلما كان لدينا أعضاء أصحاب خبرة ودراية كلما وجدنا هذه الجمعيات تعمل بشكل أفضل.

- ولا ننسى أيضا الجانب الإعلامي لهذه الجمعيات، وهو جانب مهم جدا لسببين: أولاً: لتسويق الفعاليات والأنشطة التي تقوم بها هذه الجمعيات. ثانياً: لاستقطاب مزيد من الأعضاء لها؛ مما ينعكس إيجابيا على أنشطتها. وما تعانيه اليوم جمعيات المجتمع المدني إنما هو ضعف تواصلها الإعلامي مع المجتمع، مما يتطلب أيضا مراجعة لهذه العنصر الذي يعول عليه في بناء وعي وطني بدور هذه الجمعيات وضرورة المشاركة في أنشطتها.

... إنَّ مراجعة وضع المجتمع المدني العُماني اليوم تُعتبر ضرورة ملحة؛ من أجل إعادة بناء قطاع على أسس قوية، تمده بالقدرة على الحياة؛ من أجل أن يكون سندا للمجتمع، بدلا من أن يكون عبئا عليها؛ فاليوم يُنظر عالميا إلى الجمعيات بأنها مؤسسات وسيطة بين الدولة والمجتمع، ومن خلالها يمكن حل كثير من الإشكاليات، وأيضا يُمكن من خلالها بناء حشد وتأييد للسياسات التنموية المختلفة؛ لذلك لا يمكن تحقيق تنمية مستدامة بدون بناء مجتمع مدني قوي ونابض بالحياة يتشاطر مع الدولة الرؤية والوسائل من أجل تحقيق هدف مشترك لا الدخول في عداء وتنافس كما يفهم البعض؛ فهذا لا يُمثل جوهر المجتمع المدني؛ وبالتالي لا يُعقل في ظل التحديات أن يقتصر دور هذا المجتمع على متابعة ما يجري، دون أن يتحول إلى تقديم مبادرات ذكية تعزز من قوة المجتمع وتماسكه.

تعليق عبر الفيس بوك