السياسات المالية والنقدية في السلطنة: وجهة نظر

د. ناصر بن راشد المعولي

إنّ عمليات تصميم سياسات اقتصادية قادرة على امتصاص واستيعاب الصدمات الخارجية وتحقيق نمو اقتصادي هي في الواقع عمليات مُعقدة وتُشكل تحدياً لمختلف الحكومات خصوصًا في أوقات التراجع الاقتصادي. وتعد السياسات المالية والنَّقدية من أهم السياسات الاقتصادية المُستخدمة في تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للدول بمختلف مستوياتها التنموية، حيث تستخدم الحكومات السياسة المالية للتأثير في الأداء الاقتصادي من خلال التحكم في مستوى الإنفاق الحكومي ومعدلات الضريبة، وتقع السياسة المالية في السلطنة ضمن مهام وزارة المالية (بالتعاون والتنسيق مع الأمانة العامة للمجلس الأعلى للتخطيط)، وفي المقابل تقوم السياسة النقدية بالتحكم في كمية النقود والائتمان وهي تأتي محلياً من ضمن مهام البنك المركزي العُماني.

في الواقع توظف معظم الدول كلا السياستين (المالية والنقدية) في نفس الوقت لتحقيق الاستقرار الاقتصادي وتحقيق الأهداف الاقتصادية المطلوبة. ويتوقف اتباع نوعية السياسات المالية سواء التوسعية أو الانكماشية طبقاً للحالة الاقتصادية للدولة؛ هل الدولة في حالة ركود اقتصادي أم حالة تضخم؟ فإذا كان الاقتصاد مثلاً يُعاني من حالة ركود أو تراجع، عندها يتم في العادة اتباع سياسات مالية "توسعية"، بحيث تقوم الدولة بزيادة الإنفاق الحكومي أو تخفيض الضرائب من أجل زيادة الإنفاق الكلي وتحفيز الاقتصاد، ويتم في هذه الحالة كذلك تطبيق سياسة نقدية "توسعية" وذلك من أجل تخفيض سعر الفائدة لزيادة الاستثمار وارتفاع الطلب الكلي وبالتالي تحفيز الاقتصاد. أما إذا كان الاقتصاد يُعاني من حالة تضخم فيجب نظرياً اتباع سياسات معاكسة، أي سياسات نقدية ومالية انكماشية. وباختصار فإنّ تصميم السياسات الاقتصادية يجب أن يكون معاكساً لاتجاه الدورة الاقتصادية

(Counter-cyclical) بمعنى يجب ألا تؤدي السياسات المالية أو النقدية إلى تخفيض النمو الاقتصادي في وقت يُعاني فيه الاقتصاد من تراجع أو ركود مما قد يعمق الركود الاقتصادي، وإنما يتوقع أن تكون هذه السياسات معاكسة للدورات الاقتصادية من أجل ضمان تحقيق النمو الاقتصادي حتى في أوقات الركود الاقتصادي. ولكن العديد من الدراسات الاقتصادية أشارت إلى أنّ البلدان النامية وخصوصاً تلك المصدرة للسلع الأولية (مثل النفط) تواجه في الواقع تحديًا كبيرًا في رسم سياسات معاكسة للدورة الاقتصادية

(Counter-cyclical) أي بمعنى اتباع سياسات انكماشية في فترات الازدهار الاقتصادي واتباع سياسات توسعية في فترات الركود الاقتصادي كما حددتها الأدبيات الاقتصادية.

بالرغم من أن هذه المقالة لا تستهدف تقديم وصف تفصيلي أو تحليل مُتعمق لدور السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية في منظومة الاستقرار الاقتصادي لاقتصاد السلطنة، ألا أنّها تحاول تقديم وجهة نظر مُبسطة ومختصرة حول ماهية السياسات المالية والنقدية في السلطنة.

ولنبدأ الحديث عن السياسة النقدية من خلال توضيح دور البنك المركزي العُماني في تنفيذ السياسة النقدية للتأثير على المجريات الاقتصادية في السلطنة. لا شك أنّ البنك المركزي العماني يملك مجموعة من الأدوات التي تمكنه من التأثير على مستوى الطلب الكلي على السلع والخدمات في السلطنة من خلال تحكم البنك المركزي العماني في عرض النقد الكلي والائتمان. ولكن إذا نظرنا إلى أهداف السياسة النقدية في السلطنة وقدرة البنك المركزي العُماني على التأثير في مجريات الأحداث الاقتصادية المحلية فنجد أنّها في الواقع محدودة، حيث إنّ حجر الزاوية في السياسة النقدية للبنك المركزي العماني هو تحقيق الاستقرار النقدي لضمان المحافظة على استقرار سعر الصرف -الريال العماني- مقابل الدولار الأمريكي بجانب ضمان وجود مستوى مُناسب للسيولة المحلية لدى الجهاز المصرفي داخل البلاد. وبالتالي فإنّ البنك المركزي العُماني عليه مسايرة (وليس مطابقة) اتجاهات السياسة النقدية للاحتياطي الفدرالي الأمريكي من أجل المحافظة على سياسة ربط الريال العماني بالدولار وكذلك المسايرة في مستوى أسعار الفائدة في السوق المحلية لتكون متقاربة مع تلك السائدة في السوق الأمريكي. وبالرغم من محدودية البنك المركزي في استخدام السياسة النقدية ألا أنّ المتتبّع لأداء مُمارسات السياسة النقدية في السلطنة خلال السنوات الماضية، يلحظ بوضوح أنّ هذه السياسة حققت إنجازات ملموسة في الكثير من المجالات. فعلى سبيل المثال تمكن البنك المركزي العُماني من الحفاظ على استقرار سعر صرف الريال العُماني، وتمكن البنك المركزي كذلك من اتخاذ كافة الإجراءات الاحترازية لمواجهة الآثار السلبية للأزمات المالية المتتالية التي عصفت بالعالم وكذلك ساهم البنك المركزي العماني في تحسين الوضع الائتماني الممنوح للقطاع الخاص. غير أنّ ما نشهده اليوم من الانخفاض الحاد في أسعار النفط واتساع العجوزات المالية للدولة يفرض على البنك المركزي العماني واقعًا اقتصادياً يدعوه إلى تجاوز أهدافه التقليدية في سياسته النقدية إلى هدف المساهمة المُباشرة في تعزيز الموارد المالية للدولة واستدامتها. وعليه عكف البنك المركزي العماني على دعم النمو الاقتصادي من خلال تمويل عجوزات الموازنات العامة للحكومة، ولجأ البنك مؤخراً إلى التأثير على السياسات الائتمانية للبنوك ومستوى السيولة المحلية من خلال إجراءات انتقائية لمواجهة الأزمة المالية الحالية والتي اتخذت في الغالب طابع سياسة نقدية انكماشية تساير الدورة الاقتصادية ( Pro-cyclical) . وكما ذُكر سابقاً فإنّ استخدام البنك المركزي العُماني سياسة نقدية "انكماشية" تساير الدورة الاقتصادية خلال فترة الركود الاقتصادي يخالف توقعات الأدبيات الاقتصادية والتي تدعو إلى تفعيل سياسات نقدية توسعية في حالة الركود أو الانكماش الاقتصادي. غير أنّه لا يُمكن في الواقع إنكار حقيقة وجود منطلقات وأسس اقتصادية دعت البنك المركزي العُماني إلى استخدام هذه السياسة النقدية "الانكماشية"، ويأتي في طليعة تلك الأسس والمنطلقات الارتباط الجامد لسعر صرف الريال العماني مقابل الدولار الأمريكي وكذلك طبيعة تركيبة هيكلة الاقتصاد الوطني المُعتمد على الإيرادات النفطية في تحقيق النمو الاقتصادي.

وأما فيما يتعلق بالسياسة المالية في السلطنة والتي - كما أسلفنا - تضطلع بها وزارة المالية، فإنّ الإشارة تجدر إلى ذكر أن طبيعة التركيبة الهيكلية للاقتصاد الوطني المعتمدة على الإيرادات النفطية وأهمية الإنفاق الحكومي في إنشاء وتطوير البنية التحتية العصرية الشاملة في كافة أرجاء السلطنة، وكذلك متطلبات بناء الإنسان العُماني الذي هو محور التنمية وغايتها قد أثَّر بلاشك على مرونة وقدرة وزارة المالية في استخدام الإنفاق الحكومي كأحد أدوات السياسة المالية في التأثير على المجريات الاقتصادية كما رسمتها الأدبيات الاقتصادية. فلقد ظل الإنفاق الحكومي هو المحرك الرئيسي لنمو القطاعات الاقتصادية المختلفة، وارتبط الإنفاق الحكومي في السلطنة ارتباطاً وثيقًا بالإيرادات النفطية وليس كأداة من أدوات السياسة المالية. كما أنّ استخدام الشق الثاني من السياسة المالية (الضرائب) ظل محدودًا كذلك في ظل عدم وجود ضريبة دخل على الأفراد وضيق القاعدة الضريبية على الشركات، الأمر الذي ساهم بدوره في تعطيل استخدام الضرائب كأداة للسياسة المالية. ويتضح مما سبق أنّ السياسة المالية في السلطنة ركزت جل اهتماماتها في تمويل الموازنة العامة للدولة من أجل تحقيق الاستقرار الاقتصادي وحققت نجاحات ملموسة في تحقيق نمو اقتصادي وتوفير البنية التحتية اللازمة وضمان متطلبات الحياة الكريمة للإنسان العماني. ومع الإيمان والتسليم بالنجاحات التي حققتها السياسة المالية في السلطنة إلا أنه لا يبدو أنها قد استخدمت كمحفز للاقتصاد في حالات الركود أو التراجع الاقتصادي لأنّها كانت في الغالب مسايرة للدورة الاقتصادية Pro-cyclical) . )

ويستنتج مما سبق أنّه بالرغم من النتائج الملموسة التي حققتها ممارسات السياسات المالية والنقدية في السلطنة ألا أنه يرجى في الوقت ذاته أن توجه هذه السياسات إلى ربط بين مكونات الاقتصاد الجزئي والكلي للسلطنة في نموذج اقتصادي مبتكر قادر على التجاوب والتفاعل مع المتغيرات الاقتصادية المُختلفة لحماية الاقتصاد الوطني من خطر الأزمات الاقتصادية التي تحدث بين فترة وأخرى كما هو الحال مثلاً مع أزمة الرهن العقاري والانخفاض الحالي لأسعار النفط.

وفي الختام أرى من الضرورة بمكان توضيح أن أهداف وطبيعة استخدام السياسات النقدية والمالية للدول تختلف تبعاً للتركيبة الهيكلية لاقتصاداتها ولمدى مستويات التقدم والتطور الاقتصادي والمالي والاجتماع لهذه الدول. ولكن من المسلم به أيضًا أنّ توسيع وتنويع القاعدة الإنتاجية للاقتصاد الوطني يتطلب مراجعة السياسات المُتعلقة بإدارة الاقتصاد الكلي والاستخدام الرشيد للسياسات المالية والنقدية للتأثير على المجريات الاقتصادية على المستوى القصير، وكما يتطلب الأمر إدارة السياسات المالية والاقتصادية أن تكون بمعزل عن تقلبات الدورة النفطية مع ضرورة أن تكون السياسات المالية والنقدية في السلطنة متوافقة مع متطلبات التعايش مع الدورة الاقتصادية للاقتصاد الوطني وليست مسايرة لها. وأما تصحيح المسارات الاقتصادية على المستوى البعيد فإنّه يتطلب معالجات هيكلية قادرة على زحزحة هيمنة القطاع النفطي على حركة النشاط الاقتصادي الوطني. وأخيرًا، أرى أنّه من الضروري العمل على المزيد من التكامل والتنسيق بين الجهات المسؤولة عن السياسات المالية والنقدية في إعادة هندسة استخدام السياسات المالية والنقدية للتأثير على المُجريات الاقتصادية المحلية لتكون هذه السياسات أكثر قدرة على امتصاص واستيعاب الصدمات الخارجية الطارئة وتساهم في الوقت ذاته في تحقيق تنمية شاملة ومستدامة للسلطنة.

*أستاذ الاقتصاد المساعد بجامعة السلطان قابوس

almawali@squ.edu.om

تعليق عبر الفيس بوك