د.سعـد بساطـة
منذ وجود البشر عـلى كوكبنا؛ كان شغـلهم الشاغـل لقمة العـيش؛ وتطوير طرق الصيد والزراعة بوسائلهم البدائية؛ ولما برزت الثورة الصناعـية صار إنتاج سلع أكثر بجهد أقل هـو الهدف..وكانت وسائل التطوير فردية بسيطة؛ مالبثت أن أصبحت جماعـية مستخدمةً العـلم؛ ومنذ ذلك الحين أضحت التقنية هي الذراع القوية لتطوير الصناعـة والزراعـة والنقل والشحن والطب إلخ.. وأضحى العـلم قوة في الحياة المدنية (كما العـسكرية)..
شوهـد مزارع يركض في بستانه؛ فسـُئـل عـن ذلك؛ قال "قرأت أنّ جائزة نوبل للعـلوم تمنح للشخص السبَّاق في ...حقله..!".
لايكاد اتِّفاق تجاري أو صناعـي بين دولة نامية وأخرى مُتقدمة؛ يخلو من عـبارة تنص عـلى ضرورة نقل التكنولوجيا Technology Transferمن المتطور إلى الأقل تطوراً..وليس من قبيل الصدفة أنّ أغـنى دول العـالم هي أكثرها تقدمًا في مناحي التكنولوجيا.
والتقنية تحتاج لتطوير وبحث وعـمل شاق؛ أما حكاية العـالم المستلقي في الحمام وفجأة يقفز عـاريًا بالأسواق صائحًا ((وجدتها! "أوريكا"))؛ أو المضطجع تحت ظل شجرة لتسقط عـليه تفاحة؛ فيستنبط قوانين الجاذبية..ماهي إلا حكايـات مسلية لا تتكرر!.
وأهم دليل هـو: استحواذ الولايات المُتحدة عـلى أغـلب جوائز نوبل سنوياً في شتى العـلوم..كونها: ((تتمتع ببيئة صالحة؛ وتفرز مبالغ مجزية للبحث والتطوير؛ وتؤمـن بالعـمل الجماعـي ضمن فريق))!..
القول الشائع حول ذلك: ((علمك يدلـّـك..جهلك يضلـّـك))!..
لنأخذ أمثلة عـن الحاجات الحياتية التي لبـّتها التقنية: الطلب عـلى الغـذاء؛ ومحاولات تطوير الزراعـة؛ والابتعـاد عـن الاعـتماد عـلى العبيد الأفارقة، كل هذا دفع لاستنباط المحراث الآلي والدرَّاسة والحصَّادة في أمريكا... وهنا قامت بعـض الدول النامية "باستيراد" تلك المعـدات الفنية دون تأهيل مزارعـيها لاستعـمالها؛ فباءت جهودها التنموية بالفشل!..
من المفيد عـرض مثال آخر: (مُتعـلق بالناحية الخدمية) فغـسالات الملابس الآلية؛ وازديادها في مناطق من بلادنا وهي (ماتزال تُعـاني من نقص المياه؛ وانقطاع التيار الكهربائي) هو مهزلة.. ونضيف لما ذكرنا مجففة الملابس الأوتوماتيكية (Dryer) في بلدان فيها الشمس تسطع (بأشعـتها القاتلة للجراثيم) ما يوافق 300 يوم بالعـام!.
من الأمثلة السابقة: ننتهي لنتيجة حتمية بأنّ استيراد التكنولوجيا يجب ألا يتم اعـتباطاً؛ بل وفق دراسات رصينة وتحليلات متأنيـة!..
مثال من التاريخ حول التطوير من ملاحظات دقيقة للممارسات الشعـبية؛ وتطويرها: جلب الألماني "هوفمان" والده للاستشفاء بمصر بسبب شمسها ومناخها الجاف الصحي؛ ولاحظ قيام فلاحي مصر بالاستشفاء من الروماتيزم وفق وصفة فرعـونية قديمة بمنقوع شجر الصفصاف؛ قام بتطوير الوصفة وبدأت شركته للكيماويات "باير" بإنتاج الأسبرين(أسيد ساليسيليك) العـقار الأشهر في تاريخنا المعـاصر.
هنالك القصص العـديدة عـن نقل اليابان التكنولوجيا من الغـرب، سلع رخيصة هي نسخ مشوهة عـن الأصل الألماني أو الإنجليزي؛ ولكن عـمرها قصير للغـاية؛ ومنها السيارات(والساعـات والمنتجات الكهربائية، إلخ)..! والمؤكـّد أنّ نهضة اليابان الاقتصادية والصناعية لم تحدث فجأة بعد الحرب كما يتصور البعـض، وإنما تعود جذورها للعام 1868م عندما قرر الإمبراطور ميجي مد الجسور للغرب والاستفادة من خبراته بتطوير بلاده بابتعاث الطلاب اليابانيين واستقدام الخبراء الأجانب. لقد كونت تلك الفترة قاعدة تقنية صلبة مكـّنت اليابان من النهوض سريعاً بعد الحرب، بطريق التَّقدم والتنمية حتى أصبحت الصناعات اليابانية اليوم الأجود لدى المستهلك. أبرز الدروس لهذه التجربة: أهمية الاستفادة من الخبرات والتجارب الأجنبية، والانفتاح المدروس على تلك الثقافات.
أتت كوريا والصين مستفيدة من اليابان؛ وانطلقت من استيراد التقنية مستفيدة من أسعـار الطاقة الرخيصة واليد العـاملة المبذولة؛ وانتقلت للتطوير.
معـلومة: صدر مؤخرا ً بالولايات المتحدة قرار يحتــّم عـلى الشركات القائمة بتطوير منتجات عـسكرية أن تجد لها تطبيقات مدنية مفيدة ومربحة؛ أي أن تكون مزدوجة الاستعـمال dual use!ونرى هنالك تناقضات عـجيبة في هذا المجال: مراكز أبحاث لحماية البيئة من التلوث في دول حديثة العـهد بالصناعـة؛ ولا تنشئ مثل هذه المراكز إلا لمسايرة الموجة أو الموضة السائدة!..
في ذات السياق: أجد لزاماً التطرّق للنشاط التجاري (إعـادة التصدير): ويشمل استيراد معـدات وبضائع؛ في المناطق الحرة - جبل عـلي/دبي - وإعـادة تصديرها لدول أخرى؛ وما يشتمل عـليه ذلك من قيمة مضافة اسمية ولو طفيفة؛ هذا يقوم بتنمية تجارية؛ وقد يسد حاجة بالسوق؛ لكنه لا يتضمن أيّ نقل للتقنية!.
نورد هنا أمثلة إيجابية لمبرمجي كمبيوتر بالألوف قدموا من الهند للغـرب (الولايات المتحدة) وساهموا بالعمل في مؤسسات برمجيات مرموقة؛ ولدى عـودتهم - بخبراتهم المكتسبة- لبلادهم؛ ساهموا في إنشاء شركات رقمية قفزت من المحلية للعالمية. وكذا الأمر في ماليزيا التي بدأت بتجميع الحاسوب؛ ثم بصنـع بعـض مكوّنات الكمبيوتر؛ ثم انتقلت للتصميم والتطوير بحيث أضحى لها مركزها العـالمي التنافسي.
من الممارسات المألوفة - الممكن أن نتبناها في عالمنا العربي- في مجال نقل وتطوير التقنية ما يدعـى بـ Reverse Engineering"التصميم الهندسي المعـكوس"؛ ويتلخص بتفكيك الجهاز الحديث المستورد؛ ومعـرفة مبدأه؛ وفهم تصميمه؛ وهنا يمكـن تطويره وتلافي مشكلاته بإدخال بعـض التعـديلات عـلى تشغـيله.. (أليس هذا ما قدمته الأيدي العـاملة السورية مما دعـا الكثيرين لتسمية "حلب" بتايوان العـالم العـربي)!
ولم تقتصر تلك التقنية عـلى الآلات؛ بل تعـدتها للكيماويات والأدوية وغـيرها! (والهند والصين أوضح أمثلة في هذا المجال).
كثير من دولنا العـربية تتقاعـس عـن الاعـتماد عـلى نفسها في نقل التنمية؛ وتهاب مجرد التفكير في تطويرها..لذا تستهل الأمر باستيرادها (أذكر صورة لعـربي ثري يحمل بيده آيفون (6S) مصرّحاً "أشعـر بالفخر لاقتناء هكذا جهاز"؛ وقربه أوروبي مبتسم ولسان حاله يقول "ماحالنا نحن الذين اخترعـناه وطوّرناه"!.
وفي سلطنة عـُمان تتم جهود حثيثة لاستيراد التقنية؛ وتدريسها في الكليات والمعـاهد الموزعـة في (مسقـط/عـبري/نزوى)وغيرها؛ وتشرف وزارات كثيرة منها (الصناعـة والتجارة/ التعـليم وغيرها) عـلى التطبيقات الذكية التي تتنامى باضطراد.
وهنا يجب التنويه بمرحلتين، مبدئية:ابتكار التقنية؛ ناقلية: نقلها: استيعـاب وتطويع:من خلال مشاريع البحوث والحاضنات.
وذلك لاستثمار أمثل للأرض الزراعية ومصادر المياه والنفط والصناعـات القائمة عـليها(زراعـية وتحويلية وتكرير)؛ والخدمات المساعـدة لها (نقل؛ شحن؛ صيرفة؛ اتصالات). والأهم: الاستفادة من الثروة البشرية بإتقان إعـدادها لمواجهة التنافسية العـالمية.
ليس هنالك ما أختم به سوى قول الرسول "ص": (ماتصدق الناس بصدقة مثل علم ينشر) رواه الطبراني.