من خطايا النظام الرسمي العربي

علي بن مسعود المعشني

لاشك أنّ ما نعيشه اليوم في الوطن العربي من فواجع وتراجعات كارثية على مختلف الصُعد، لم تكن لتأتي وتكتمل حلقاتها وبهذه الصور النمطية الجلية لو لم تجد الحاضن الطبيعي والمتمثل في الإخفاقات المتراكمة لدولة الاستقلال العربي ومنذ حقبة الأربعينيات من القرن المنصرم ولغاية ما سُمي بالربيع العربي والذي باغتنا وفتتنا فكريًا وتنمويًا وزادنا وهنًا على وهن كنتيجة حتمية لأسباب تاريخية.

ومن أخطر تلك الأخطاء والتي تعاظمت مع الأيام لتصبح خطايا كارثية الفراغات القاتلة في دولة الاستقلال تلك الفراغات التي ملأها الخصوم والمتربصون وأحيانًا عوامل الزمن بكفاءة واقتدار يضاف عليها سياسات اللعب بالبيضة والحجر معًا والتي أبقت الأوطان مسارح عمليات مفتوحة للحلول والمعالجات الأمنية ولمعارك مفتوحة ودائمة بين أطياف الدولة وبالتالي غياب الدولة الحقيقية وغياب الوئام والمواطنة الحقة والتلاعب بالوطنية والولاء ومعاييرهما الطبيعية.

لابد لنا من الاعتراف بوجود عوامل موضوعية خارجية وداخلية ساهمت في رسم ملامح الدولة العربية المعاصرة ونظامها إلى حدٍ كبير، كالشتات العربي والنفوذ والوصاية والتبعية للغرب وغياب ملامح الثوابت العربية الحضارية والسياسية عن أذهان رجال الدولة وصُناع السياسة العرب وتفاوت الوعي والفجوات المعرفية بين أطياف الشعب الواحد وحضور القبلية والمناطقية والجهويات والعصبيات بقوة في بعض المجتمعات، وشُح الموارد الطبيعية لبعض الأقطار العربية، ولكننا هنا نركز على الممكنات التي أهدرها النظام العربي الرسمي بوعي وبلا وعي حتى جعل من الأوطان اليوم أجساداً بلا مناعة وكالقشة في مهب الريح.

1-لم تتناغم أغلب النُظم العربية مع الموروث والمكون لأوطانها كالقبلية والمناطقية والتنوع الطائفي فقامت بتجاوزها قهرًا (بدلًا من استيعابها والنهوض بها)سعيًا منها لإقامة دولة بهوية جامعة فكانت النتيجة تربص وتحين تلك المكونات للفرصة المواتية للانقضاض على الدولة وكان الربيع المشؤوم مثاليًا لتحقيق ذلك، حيث بُعثت القبيلة والطائفة والمناطقية من جديد لتفتيت الدولة والمجتمع ولتطالب بحقوقها استقواء بالظرف وبدعم من الخارج لتصبح الدولة الواحدة عددا من الهويات واللغات والكيانات بزعم الحقوق الطبيعية والتاريخية والعراق كنموذج جلي بيننا. بينما لم نجد دولة واحدة في العالم تنشئ أكثر من هوية جامعة واحدة وترجو السلامة والتعايش والسيادة ولحمة الدولة الواحدة باستثناء حالتي كل من بلجيكا وكندا واللتين لازالتا تتعاملان بإزدواج لغوي يهدد كيانهما في كل حين لولا توافق الكبار على الحفاظ على تلك الهشاشة غير المتجانسة إلى حين.

فحين نعود إلى دولتنا العربية نجدها تجاوزت كل المكونات والهويات الفرعية ظاهريًا وشعاراتيًا ولكنها مارستها بامتياز فعلي عبر الحزبية أو الزبونية السياسية أو النفوذ والعرف التاريخي، وكان من الجدير والأولى بها التصالح مع الذات وسد باب الذرائع وخلق هوية ومواطنة جامعة يتشبث بها الجميع ويلتف حولها ويضحي من أجلها حبًا وطوعًا لا كرهًا ونفاقًا.

2- رفع النظام العربي الرسمي شعار عُرفي مفاده: "جوِّع كلبك يتبعك وجهل شعبك يدوم عرشك"، وقد برهنت الأيام والربيع على وجه الدقة والتحديد بأن من جوَّع كلبه أتى من يغرية بما لذَّ وطاب فتبعه، وأن الجهل والتجهيل كانا الحاضنين لكل خراب ودمار وتآمر وخيانات للأوطان.

3- مارس النظام العربي الرسمي كل مظاهر القمع والتسلط فأنتج مواطنًا خانعًا ومهزومًا وعقلية القطيع وعقلية البعد الواحد والتي وظفها الخصوم لقضم الدولة وأطرافها ومكوناتها، وأصبح ذلك المواطن اليوم عبئاً على الوطن والمواطنة والتنمية والنهوض بالدولة.

4- اهتمَّ النظام الرسمي العربي بالوجه التقني للدولة من خدمات ومنشآت ومؤسسات وأهمل الوجه الفكري لها من تعليم حقيقي وثقافة وإعلام هادف ومسؤول فكانت النتيجة فراغًا فكريًا هائلاً للدولة ملأته وسائل التقنية والاتصال الحديثة الخارجية وجذبت نحوها جحافل من الشباب العربي المتعطش للمعرفة والفكر وبالتالي أصبحت هي من تشكل وتقود وتصنع الرأي العام العربي وحتى داخل القُطر الواحد وتتحكم به.

5- القمع والاستبداد بطبيعة الحال لاينتجان سوى إنسانًا مهزومًا ومحطمًا ومسكونًا بالخوف والرهاب من كل شيء، وبالتالي فمن الطبيعي أن يصبح هذا الإنسان في موقع المسؤولية أسوأ من سلفه وكدورة الحياة تمامًا، ومن هنا لا يُرجى تطورًا أو نهوضًا لأوطان تتبنى القمع نهجًا لحكم شعوبها فهي بالضرورة ستنتج وتستخلص أسوأ مافي الإنسان من طباع وصفات كالكذب والنفاق والرشوة والتسلق كي يصل لمصالحه ويحافظ عليها، والأسوأ من ذلك أنّ مناخات القمع تولد ما يسمى بالإضراب الخفي والذي يمارسه المقموع خفية وتبدو ملامحه وتتجلى في مظاهر التسيب والبيروقراطية وهدر المال العام ووقت المواطن وتعطيل طاقات الوطن.

6- من ضمن سياسات النظام العربي السياسي الكارثية توجيه المخفقين في المراحل الدراسية إلى قطاعات هامة كالقطاعات كالعسكرية والأمنية والتدريس والتدريب الفني والمهني، وهذه القطاعات هي عصب النجاح للدولة العصرية، بينما نتج عنها في الوطن العربي مظاهر جلية للدولة الفاشلة.

7- اهتم النظام السياسي العربي بمطاردة واستقطاب وإرضاء من يُسمون بالمعارضين له بالترهيب والترغيب، وأهمل العناصر الوطنية في الداخل والخارج من الدعم والاهتمام والرعاية ففقد حلقة مُهمة من حلقات قوته وقوة الوطن وحصانته وأغرى البعض لانتحال صفات الشغب والمشاغبة لغرض في نفس يعقوب.

8- مارس النظام العربي بامتياز سياسة اللعب بالبيضة والحجر لضمان ديمومته واستمراره، فقد رعى الأضداد ليتلاعب بهم ضد بعض ويلهيهم والشعب معهم في معارك وأخطار وهمية، كالتيارات الإسلامية واليسار والليبراليين والقوميين وبالتالي بقيت الأوطان مختبرات تجارب وفي حالات فراغ أمني وفكري دائم.

9- اختزلت النُظم العربية الرسمية الإسلام في الشعائر فقط وبالتالي فتحت الباب على مصراعيه لقيام مفاهيم لا حصر لها للإسلام من قبل العامة وبدرجاتٍ متفاوتة من الإفراط والتفريط وهذا ما تدفعه الأوطان اليوم.

10- اعتبر النِّظام السياسي العربي، العروبة والإسلام مثالب ونقص وقصور له رغم وجودهما في الدساتير واعتبارهما ثوابت للأمة والدولة، لهذا بقيت حالة الأدلجة السياسية والاتجار بالعروبة والإسلام في صناديق الاقتراع مهناً مربحة للبعض وفي ظل وجود الدولة الحامية لها.

11- اختزل النظام السياسي العربي مفهوم الدولة في السلطة التنفيذية (الحكومة) وغيَّب بقية المكونات لهذا أصبح المواطن العربي رقمًا زائدًا في المعادلة أوقات السلم وشريكًا قهريًا للحكومة في الأزمات (الحروب والتقشف وما إلى ذلك) .

وفوق كل ماذكر وعبر علينا مازلنا نتشبث بالأوطان ونعتبر أنفسنا حكاماً ومحكومين في سفينة وطن تخلو من قوارب النجاة، فالزمن لن يتوقف عند عثراتنا أو منجزاتنا ولازالت به فُسح كبيرة وكثيرة لتدارك الأخطاء وتوظيف الممكنات رغم كل شيء.

قبل اللقاء: "التعليم من دون تفكير، جُهد ضائع، والتفكير من دون تعليم أمر خطير" وبالشكر تدوم النعم.

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك