الأصالة

سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟!(43)

د. صالح الفهدي

ما إن مددتُ يدي إليهِ مُصافحاً، حتى استعرضَ لي في ثوانٍ معدودةٍ ودونَ مناسبة قُواهُ الخارقة، ومواهبهِ الفائقة، وعضويّاته الدولية كما يستعرضُ عاملُ المقهى قائمةَ الوجبات التي أصبحت تتدفق من لسانهِ تدفقاً من كثرةِ الترديد..!! ثم يذكرُ أنّه صاحبُ الإنجازِ الأوّلِ في كذا، وأنّه مشغول بمواضيعَ جديدة الطرحِ، غير مسبوقةِ التناول..!

هرعتُ لاحقاً لأبحثَ عن هذا الفارس المجهول في "غوغل" فإذا هو حاملُ دكتوراه من جامعةٍ لم أسمع بها قطُّ في حياتي، كما لم يسمع بها ذوو الإختصاص..!! فقلتُ لنفسي: يا ذا الإنسانِ أتراكَ تضحكُ على ذقنكَ أم على وطنٍ استودعكَ أمانةَ بنائه، أم على بشرٍ استخففت بعقولهم..؟!

أحقرُ حالاتِ الفردِ أن يكونَ مفترياً، وأخطرُ حالاتِ المجتمعِ أن يكون مُزيّفا..! حينئذ تغيبُ الأصالةُ التي هي جوهر النُبل والنماء والإبداعِ في الإنسان والمجتمعات، يقول جون ستيوارت ميل: "الأصالة هي الشيء الوحيد الذي لا يمكن للعقول غير الأصيلة الإحساس بفائدته".

وحتى لا تفهم الأصالة في معناها المشوّه الذي درجت عليه أقول إنّ الأصالة ليست تمجيد الماضي والعيش على ترانيمه وبطولاته، وإنّما هي استقلاليّة عقل الفرد وقدرته على الإنتاج والإبداع والتشييد دون تقليدٍ أو محاكاة، أمّا أصالة المجتمع فهي استثماره للمزايا الكريمة، والشمائل الفاضلة التي تتميّز بها هويّته من أجل التطوير والبناء والتشييد.

إنّ ما يحدثُ اليوم في مجتمعاتنا من تزييف للعلمِ يعدُّ جريمةً في حقِّ الأصالةِ، وأبرزُ ذلك العدد الكبير الذي كُشفَ عنه من المزيِّفين المدّعين بحمل الشهادات العليا يضاهونَ بها أصحاب الجهودِ الأصيلةِ، والكفاحِ العتيد، الذين صدقوا مع أنفسهم قبل أن يصدقوا مع وطنهم.. فكيفَ لمزيّفٍ أن يحمّل أمانة وطنيّة، وكيف لغشّاشٍ أن تناطَ على كاهلهِ مسؤولية مجتمعيّة..! إنّ من سهلَ عليه التدليس على نفسه، يسهلُ عليه الافتراءُ على وطنه..!

المجتمعُ الذي يسألُ عن "أصالة" الأدواتِ والأجهزة التي يستعملها، ولا يسألُ عن "أصالة" البشرِ الذين يتعاملُ معهم، ويحمّلهم المسؤوليات إنّما يبني لنفسه أساساً من ملح..! فهو يكترثُ بالمظهريّات لا بالجوهريّات.. نعم لدينا أزمة وهي إحدى أهم إشكاليّاتنا الحضارية في أننا نولي اهتماماً عظيماً بالمظاهر أكثر من الجواهر، لكن أن يصل الزّيفُ إلى التعليم فتلك جريمةٌ يحقُّ للمحاكم أن تنظرَ فيها..! على أن هناكَ أمرا من الأهميّةِ إدراكه وهو أنّ هذا التزييف حصيلة ثقافة متجذرة..! فالابنُ الذي حكم عليه القاضي بقطعِ يدهِ لأنّه سرق صاحَ بأعلى صوتهِ: قبل أن تقطعوا يدي اقطعوا لسان أمّي التي زغردت حين سرقتُ أول مرّة..!!

غيابُ الأصالةِ نخرَ الكثير من جوانب حياتنا، فأصبحنا نعجبُ بأرقام لوحاتِ السيّارات لا بأخلاقِ الناس..! وأصبحنا نهتمُّ بالأوراق/ الشهادات دون أن نكترث بالمعرفة..! وأصبحنا نقيّم البشرَ بمظاهرهم إن كانوا من أهل الصلاحِ والتقى لا بأعمالهم وأخلاقهم..!! وأصبحنا نقدّمُ الجهلاءَ على الفضلاء..! وأصبحنا نتغنّى بالأصالةِ في العقيدة والتاريخ والتراث والعادات ونرتضي بما يخالفها..! وأصبحنا مقلّدين محاكين لأننا حدنا عن المنهجية الأصيلة للإبداع..! وأصبحنا نبني الصروح الشواهق قبل أن نعدّ البشرَ..! وأصبحنا نمجّدُ التاريخُ دون أن نعرف عنه إلا النزرَ الضئيل، ونطمحُ للمستقبل دون أن نؤسس له..! وظهرت بيننا الألقاب التي لا تسندها أيّة دعائم علمية أو عملية..! وأصبح الإعلامُ يصنعُ الهالات الكبيرة حول النكرات فيضخم من شاء ويقزّمُ من شاء فهذا "نجمٌ" وهذا "عبقري" وتلك "فنانة" وأخرى "شاعرة" كما يحلو لمزاجِ مقدم البرنامج أن يطلق عليهم..! وأصبح الاستخفافُ من صاحبُ المبادئِ شائعاً بل ويوصفُ على أنّه "غير واقعي"..! بل وحتى شوّه معنى الأصالةِ نفسها بنسبتها إلى الماضويّة وتمجيد القديم، يقول د. إبراهيم البليهي:" أصبح الانسان الأصيل هو الذي يجيد التقليد ويحارب استقلال الفكر وصار المجتمع الأصيل هو الذي يرفض التقدم ويستعصي على التغيير وصارت الثقافة الأصيلة هي التي تكتفي بنفسها وتغلق الأبواب ولا تقبل التغذية"[1]..!!

كل ذلك ونحن نتحملُ هذا الوزر الذي يعتورُ حياتنا، وينخرُ في أساسها.. ففي الأدبِ وهو أساسٌ من أسس نهضة الأمم يرى الناقد والمفكر المغربي عبداللطيف محفوظ أنّ النقد الأدبي العربي أضاع طريقه وهو بعيد عن تحقيق تجربة متكاملة في ظل افتقاره إلى الأصالة[2]".

وفي التقدم العصري المتسارع يقول صبحي الصالح في كتابه "معالم الشريعة الإسلامية":" لن نقرع ناقوس الخطر لما يتهدد كرامة الإنسان من مضاعفات التقدم التقني والتسارع الحضاري وإنما نلفت النظر إلى غياب الأصالة وفقدان الإبداع في عالمنا المتغير، الدائم التغيّر، برغم المنجزات التقنية المذهلة التي حققتها الآلة للإنسان،أو حققها الإنسان بالآلة لنفسه: فلقد كان من نتائج هذه التغيرات المتسارعة تشكيك لا مسوّغ له في قيمة المعارف الإنسانية كلها دون استثناء".[3]

وفي التديّن المغشوش يقول الشيخ محمد الغزالي رحمة الله عليه في كتابه"المحاور الخمسة للقرآن الكريم":"عَرَب اليوم في محنة، ما مرّوا بمثلها في جاهلية ولا إسلام، لأنّ التدين المغشوش قد يكون أنكى بالأمم من الإلحاد الصارخ"، وفي مقدمة كتابه "الغزو الثقافي" يرى الشيخ الغزالي أنّ التدين المغشوش يقدم الهزيمة ويصنع التخلف، ويحس الناس معه بالحرج".

وأساسُ كل ذلك يكمنُ في غياب الأصالةِ من التعليم، ذلك الذي يقدّس الحفظَ على الفهم، ويقدّم محصّلة الأرقامِ في النتائج على محصلّة المعارف، ويبسطُ كفّ التلقين على المشاركة الفاعلة، فلم يسلم من هذا صغير أو كبير، حتى الأستاذ الجامعي افتقدَ إلى الأصالة، يقول الدكتور يعقوب ناصر الدين رئيس مجلس أمناء جامعة الشرق الأوسط بالأردن في مقاله "أصالة البحث العلمي":" إنّ غياب الأصالة عن معظم البحوث العلمية يعود إلى الضغط المفرط الذي تضعه معايير الترقية العلمية لمعظم الأكاديميين، فكانت النتيجة أن انصب الاهتمام على الكميّة على حساب النوعيّة، مما دفع المبدعين من أعضاء هيئة التدريس إلى الخروج القسري من دائرة الإبداع ليلحقوا بركب زملائهم في الترقيات العلمية"[4].. إلاّ أنّ هذه الحال أهونُ بالمقارنة مع الساعين إلى الألقاب الأكاديميّة المزيّفة التي تخفى وراءها خواءً علمياً صريحاً بسبب زيفِ الشهاداتِ..!

إنّ غياب الأصالةِ عن الفردِ يعني التضحية بالمبادئ القويمة للشخصية الإنسانية، فيتلوّنُ بحسبِ المصالحِ، ويتقلّب بحسب الأهواء، وإنّ غياب الأصالة عن المجتمعِ يعني أنّ المجتمع سيغدو دون قاعدةٍ أو أفق، يعيش أفراده على التصنّع والتزلّف من أجلِ مصالحهم الذاتية لا من أجلِ المجتمع. وحين حذّرنا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام بقوله "من غشّنا فليس منّا" فإنّ ذلك منسحب على عموم المجتمع وكل قضاياه وجوانبه لأنّه لا يمكنُ أن يقوم إيمانٌ حقيقي في مجتمع يتفشّى فيه الغش وهو ضد الأصالة القائمة على الإبداع، والإبداعُ قائمٌ على الصدق والإخلاص والاتقان والعدل والحق والجمال.

لقد تربّت مجتمعاتنا على مفردة "الأصالة" وتناقلتها أمثالها الشعبية التي تؤكّد على التمسّك بالإنسانِ الأصيل، والخيل الأصيلة، واتباع العادات الأصيلة، وهذا ما يفسّره الأديب توفيق الحكيم معنى الأصالة وماهيّتها، في قوله: "وإن ما يسمونه العراقة في شعب ليس إلا فضائله المتوارثة من أعماق الحقب، وإنّ الأصالة في الأشياء والأحياء هي ذلك الاحتفاظ المتصل بالمزايا الموروثة، كابراً عن كابر، وحلقة بعد حلقة. هكذا يقال في شعب أو رجل أو جواد"[5] وهكذا، إلاّ أنّنا وفي انبهارنا العصري جرينا خلف البريقِ اللامع الذي لا مصدر له متناسين الذهب الذي يلمع بين جوانحنا وهو المبادئ الإنسانيّة السامية التي تصنعُ إنسانيّة الإنسان، وتخلقُ له أسباب سعادته، وتوجهه نحو أهداف حياته. لقد أصبنا بالإنفصام الثقافي إزاء الأصالة إذ أن "الأصالة شيء دائما ما نحض عليه، ودائمًا ما نختلف معه" كما يقول توماس كارليل، وما لم ننتبه إلى ما نحن ماضون فيه ونعد إلى التأسيس الأصيل في كل شيء فإننا سندفع الثمن غالياً؛ ثمن الأفكارِ التي تتغشانا، والأقنعة التي نتلبّسها، والازدواجية التي تتقاسمنا، وأعظم من ذلك الشعور بالاستلاب فهو أشدُّ إيلاماً من كلِّ ألمٍ للأمّة إن هي تعرّضت للذوبان لهذا فإنّ أهم أسئلةٍ يجب علينا أن نجيبها للتاريخ في كل مسعىً ومنحى هي: كيف للفرد والأمة أن يحققان الأصالة؟! كيف يمكن تحقيق الأصالة بفتح العقولِ نحو فضاءات الإبداعِ، والتفكيرِ، والنقدِ، والابتكار..؟! كيف نخلّص مفردة "الأصالة" من أغلال الفهمِ الذي حصرها في ماضي الأجدادِ، وقديم الأمجاد ونجعلها قرينة الجدّة، والصدق، والإبداع..؟! علينا أن نجيب عن هذه الأسئلة وإلاّ فلن نعرفَ أبداً معنى الأصالة.. وسنغرقُ في وحلِ الزّيف شيئاً فشيئا..!



[1]- إبراهيم البليهي، الأصالة بالإبداع وليست بالتقليد، موقع صحيفة الرياض الإلكتروني http://www.alriyadh.com/27227

[2]- مجلة العرب، 15 إبريل 2016 http://www.alarab.co.uk/m/?id=50385

[3]- د. صبحي الصالح، معالم الشريعة الإسلامية، دار العلم للملايين ص 300. ط1،1975

[4]- جريدة الدستور الأردنية، أصالة البحث العلمي ،الثلاثاء، 14 فبراير/شباط، 2012

[5] - د. صالح زياد، الأصالة:الإستلاب وذات مطلقة لا تفعل http://faculty.ksu.edu.sa/zayyad/DocLib

تعليق عبر الفيس بوك