السلم الأهلي بديلا للحروب العربية العبثية

عبيدلي العبيدلي

من الجزائر حتى اليمن، مرورًا بسوريا دون القفز على العراق، تجتاح البلاد العربية موجة حروب لم تعرفها المنطقة في تاريخها الحديث، من حيث اتساع جغرافيتها، وكلفتها، وعدد الضحايا التي تركتهم وراءها والذين يتناسلون يوميا سواء في داخل ساحات الوغى، أو بعيدا عنها. وقد تجاوزت تداعياتها كل ذلك فولدت ظاهرة عربية غير مألوفة هي جحافل المهاجرين الذين ليس هناك من سبب وراء استماتتهم لمغادرة منازلهم قبل أراضي بلادهم سوى الهروب من تلك المعارك وويلاتها. وهكذا تحولت شاشات التلفاز إلى مشاهد متكررة تتحدث عن هذه الظاهرة، تارة بالأرقام، وتارة أخرى بقرارات دولية بشأنها، وأحيانا بتداخلها مع ظواهر الإرهاب الأخرى التي أصبحت تعم العالم دون استثناء لدين أو مذهب أو نظام سياسي.

وبينما يرى البعض في ذلك "تباشير تغيير"، وأن الأمم الأخرى من أوروبية وآسيوية، لم يكن لها لتنجز ما أنجزته بدون تضحيات قدمتها خلال معارك أهلية داخلية، أو حروب استقلال ضد محتل أجنبي، ويضربون، للتدليل على صحة ما يذهبون إليه، بالحروب التي عمت أوروبا خلال حقبة النهضة، وحروب التحرير التي قادتها دولة مثل الصين لإنهاء حكم الاستعمار البريطاني، نجد آخرين يعتبرون ذلك ظاهرة سلبية تخفي في أحشائها علامات تخلف تعري فشل العرب في حل مشاكلهم على نحو سلمي، ومن خلال سلم أهلي يقوم على القبول بالآخر المختلف معه، والتوصل معه إلى ما هو مشترك للنهوض بالأمّة، بعيدا عن أسنة الرماح، وصليل السيوف، كما عرفها العرب في تاريخهم القديم. يرى هذا الفريق أنّ العرب "ظاهرة صدامية عدوانية"، كما يصفهم البعض بأنّهم "ظاهرة صوتية"، غير قادرة، تحت كل الظروف، على حل مشكلاتها الداخلية من خلال قنوات سلميّة متحضرة، يكون العنف فيها حالة استثنائية وعرضية، ليست بديلا للطرق السلمية القادرة على اجراء التحولات المطلوبة في المجتمع، دون إراقة دماء، أو اللجوء إلى العنف.

هذه الحالة العربية تثير مجموعة من التساؤلات الاستراتيجية بشأن هذه الحروب، وفي المقدمة منها: ما هو الهدف النهائي منها، سواء تلك المشتعلة، أو تلك المترقبة ويحتمل اندلاعها في أية لحظة؟ وكما يبدو من سير تلك الحروب وما يرافقها من سياسات وبرامج، هناك غياب حقيقي لهدف استراتيجي واضح المعالم، محدد المواصفات، الأمر الذي يحولها، شاءت الأطراف التي تقف وراءها أم رفضت إلى حروب عبثيّة تستمد عناصر استمرارها وتناميها وتناسلها من قوى خارجية هي التي تمدها بما تحتاجه من وقود يضمن لها الحيوية التي تتمتع بها. ومن ثم فمن غير المتوقع لهذه الحروب أن تتوقف، طالما استمرت تلك القوى الخارجية في ضخ عوامل النمو والازدهار.

وعليه ولكي تتمكن الأطراف العربية الضالعة في هذه الحروب ضد بعضها البعض، إن هي شاءت أن تضع حدًا لها أن تمتلك الشجاعة الكافية، وتتمتع بالقناعة الضرورية التي تعلن فيها أنّ الحروب الداخلية لم تعد الوسيلة السليمة التي تنظم العلاقات العربية الداخلية، وتحقق التكامل العربي المطلوب الذي يضع تلك العلاقات العربية على طريقها الصحيح، ويحول دون اندلاع أي من تلك الحروب مستقبلا.

دون الحاجة للدخول في تفاصيل سياسات وسبل إيقاف الحروب، يمكن الخروج بأربع خطوات متناسقة تساهم في وضع حد لهذه الحالة العربية المتردية والمنذرة بما هو أسوأ.

الخطوة الأولى على هذه الطريق هو الاقتناع التام بأنّ الحروب الداخلية لا يمكن أن تكون الوسيلة لحل المشكلات الداخلية العربية، سواء داخل القطر العربي الواحد أو بين الدول العربية، الواحدة ضد الأخرى. وأنّ نتائج هذه الحروب، بغض النظر عما يبدو على سطحها من أرباح مبهرة، هي خسارة مشتركة للطرفين العربيين الضالعين فيها.

الخطوة الثانية هي اليقين غير القابل للنقاش أن للقوى الخارجية، وخاصة تلك التي تحاول أن تكون حليفة لطرف عربي ضد طرف عربي آخر، مصالحها الخاصة التي تدافع عنها، والتي بالضرورة تتناقض في بعض جوانبها مع المصالح العربية العليا المشتركة، ومن ثمّ فموقفها إلى جانب طرف ينبع من تلك المصالح التي لا بد وأن تصطدم يوما ما مع المصالح العربية، بما فيها ذلك الطرف المتحالف معه ذلك الأجنبي.

الخطوة الثالثة هي أنّ الوئام العربي الشامل، لا بد وأن يكون، وخاصة في مراحله المبكرة، لصالح طرف عربي على حساب طرف عربي آخر، لكن غير التوازن هذا مؤقت، ولا يمكنه أن يستمر بعد أن يسود السلام المنطقة العربية، التي ستكون قادرة حينها، بفضل مواردها الطبيعية المشتركة، وقدراتها السكانية المتنامية، وإمكاناتها الاقتصادية الضخمة، على إعادة توزيع الثروات، والحقوق، على نحو تتوفر فيه أفضل أشكال العدالة.

الخطوة الرابعة، وهي الأكثر استراتيجية وتأثيرًا، الاقتناع بإشاعة السلم الأهلي، أو على نحو أشمل العمل على غرس مفهوم التعايش السلمي عميقا في أذهان المواطنين العرب، ومن خلال ذلك نشر الطمأنينة في نفوسهم، والانتقال من تلك الحالة إلى أخرى أكثر رقيا يكون فيها القبول بالآخر والحرص على التعايش معه سلوكا موحدًا لدى سكان المنطقة العربية.

بمثل هذه الخطوات، وربما أخرى رديفة لها يمكن للمواطن العربي أن يضع حدًا لتك الحروب الداخلية الطاحنة التي تقترب من الحالة العبثية التي لا يستبعد أن تتحول، في المستقبل القريب، إلى سلوك غير حضاري، يضعف الأمة، ويهدر طاقاتها، ويمزّق نسيجها الاجتماعي، ويقزم حضورها الدولي، قبل أن يدمرها.

تعليق عبر الفيس بوك