تغيير العقليات

سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟ (41)

د. صالح الفهدي

سأل مذيع أشخاص عمّا كانوا سيفعلون لو أنّهم حصلوا على تقدير مقبول في اختبار منتصف الفصل ثمّ بعد ذلك حصلوا على مخالفة إيقاف سيّارة. وبسبب الأحداث المتراكمة، قال الأشخاص أصحاب العقليات الثابتة أنّ هذا الموقف يثبت أن "العالم يسعى للنيل منهم" أو أنّهم أغبياء وفاشلين. أمّا الأشخاص أصحاب العقليّة المتطورة فقد قالوا إنهم سيعملون بجد ليكونوا أكثر حرصًا في المدرسة وفي مواقف السيارات.

ما فتأتُ أردّد منذ سنين عبارة الشيخ عبدالله العلايلي التي وردت في كتابه "أين الخطأ: تصحيح مفاهيم ونظرة تجديد":"ليس محافظة التقليد مع الخطأ، وليس خروجاً التصحيح الذي يُحقق المعرفة"، ذلك لأننا بحاجة ملحّة إلى تغيير العقليات، لأنّ نمط التكرار الذي يفرّخُ في مجتمعاتنا بحاجة إلى مراجعة جذرية لا غنى عن مؤسسات الدولة في مباشرتها - دون الاتكال على الأفراد- بعمقٍ وعنايةٍ شديدين..! لقد أثبتت الكثير من سياقات التفكير أنّ المشكلات المتكررة تعني أنّ وراءها عقولاً منغلقة توقّفت عن الإبداع، ذلك أنّها تعملُ خارج إطار الزّمن وحركته المتسارعة، ولهذا يتوجّب تغييرها كليَّةً أو تجديدها إن أمكن بعملية إنعاشٍ مفاهيمي. هذا ما يؤكده العالم إلبرت إنشتاين بقانون التغيير قائلاً: "لن نستطيع تغيير المشاكل المزمنة التي تواجهنا بنفس العقلية التي أوجد تلك المشاكل"، وهو ما يعني أنّ العقليات التي ما برحت تنتج المشكلات المتكررة لا يمكن الارتهان لها في إيجاد حلولٍ فاعلة، ومجدية لتلك المشكلات، ولهذا تصبح النتائج -عند كل معالجة- متوقعة سلفاً بأنها فاشلة..! ولهذا يتحتم تغيير العقليات التي أنتجب طرق التفكير التي أفرزت المشكلات الراهنة بعقليات مختلفة إلاّ أننا يبدو نعمل بقانون السذاجة لإنشتاين وهو أننا "نعمل نفس الأمور بنفس الطريقة ثم نتوقع نتائج أخرى" ..!! وهكذا تستمرّ النتائج على حالها دون تغيير.

إن التقرير الأممي الذي صدر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الاونكتاد UNCTAD) يستحق التوقف عنده فقد جاء في مضمونه كتوصية في مجال فتح آفاق رحيبة للإبداع أنّ "على عمان أولا وقبل كل شيء أن تعمل على تغيير التركيبة الفكرية (mindset) للإنسان العماني" وقد حدّد ثلاث مساقات من أجل تعزيز القدرات الإبداعية هي الاتصال، الإلهام والقيادة. في مجال الاتصال ترى المنظمة أهميّة تطوير قاعدة إعلاميّة واسعة تضمّن البرامج الوطنية في التلفزيون والإذاعة من أجل الوصول إلى الشرائح التقليدية التي تتابع هذه الوسائل، في حين أنّ وسائل التواصل الاجتماعي توظّف من أجل الوصول إلى الفئة الشابة التي تستخدم هذه الوسائل بطريقة حثيثة. أمّا مساق الإلهام -كما ورد في التقرير- فإنّه من الأهميّة بمكان أن تشكّل الكفاءات القيادية، وصنّاع القرار وموظفو الحكومة قدوة في مجالات العمل والحياة بصورة عامة حيثما تقودهم أعمالهم. إضافة إلى ذلك يجب إشراك مجتمعات الأعمال، والأوساط الأكاديميّة ومؤسسات المجتمع المدني. ينبغي لهذه الجماعات مجتمعة البحث عن الفرص السانحة للتعبير عن إبداعاتهم وتملُّكها لحسّ ريادة الأعمال. أمّا في القيادة فإنّ وجود قيادة ملهمة وفاعلة هو المحور الأساسي لإحداث التغييرات المطلوبة والمحافظة عليها. لهذا - وكما يقول التقرير- فإنّ على السياسيين وصناع القرار والإداريين في المستويات الوظيفية المختلفة بالحكومة من القمة إلى القرى الصغيرة بحاجة ماسة إلى ممارسة أدوارهم بفاعلية من أجل هذه التحديات"[1].

إنني أتساءل عن جدوى الدراسات التي تتراكمُ من جراء الدراسات العليا، أو المشاريع الإقتصادية والتنموية ثم لا يعمل بها..! بل ولا يكترث لها..! أتساءل: لماذا تهدرُ الأموال الباهظة لابتعاث الدارسين، وإرفاد الباحثين الذين يجتهدون في اختيار مشكلات معيّنة من أجل البحث عن حلولٍ ناجعةٍ لها ثم لا يجدون من يلتفتُ إلى دراساتهم وأبحاثهم..! في هذا السياق أُقيمت ندوة للموارد البشرية صرفت عليها مبالغ باهظة ثمّ خرجت بتوصيات كنتُ شخصياً قد ضمّنتها في بحثي قبل الندوة بعامين..!! وقس على ذلك الكثير مما لا يحتفلُ له من الأبحاث والدراسات التي تقصدُ إحداث تغيير في منظومة الأعمال. ولقد استغلّت المكاتب التي تعمل على دراسات الجدوى الاقتصادية للمشاريع عدم الاكتراث لهذه الدراسات من قبل المؤسسات الحكومية فهي مجرّد شرط يفترض الوفاء به للحصول على موافقة الجهة المصرّحة للمشروع. لهذا فإنّ دراسات الجدوى التي تصدرها غير دقيقة بل هي عامّة لا تغيّر فيها شيئاً عدا أسماء طالبي هذه الدراسات وعناوينهم وفي المقابل تتكسّب الأموال الباهظة على حساب الإنسان الطموح المكافح الذي لملم المال من أجل مشروعٍ مساند..!

إنّ تغيير العقليات هو أمرٌ جوهري إلا أنّ الأهم منه هو من يقوم بهذا التغيير! هذا هو حجرُ الزاوية في التغيير. لكن الأمر إن قامَ على كفاءاتٍ مخلصة لإحداث تغيير عقليات فإنّه بلا شك سيكون له أثره على واقع المجتمعات. إنّما هناك حاجة إلى الإخلاص والإرادة والتخطيط السليم والأهداف الواضحة. أمّا أن نمضي هكذا كما اتفق فإنّ الإشكاليّة هي أن النتائج ستكون مروّعة ولن تؤتي الجهود المبذولة للإنقاذ ثمارها لاحقاً بعد أن يبلغ السيلُ الزُّبى..!

إنّها ثقافة يجب أن تتغير ليس وفق مقتضيات العصر وإنّما قبل ذلك بترسيخ المفاهيم الأصيلة فهي، فقد حادت عنها في الكثير من مواضعها، ومناحي وظائفها. ففي نطاق الوظيفة العصرية والبيئة المؤسسية انحرفت هذه الثقافة عن مساقيها. يقول لي أحد المسؤولين الإداريين: نعم نؤمن بالقيم الإسلامية قولاً لكننا لا نطبّقها في مجال العمل فعلاً..! أي أن قِيماً كالصدق والعدالة والكفاءة والاحترام والتقدير والأمانة كلّها ضمن (المحفوظ الذهني) للشخص لكنها ليس ضمن (المزاول العملي) له..!

وفي نطاق الفهم الدين فإنّ ترسيخ الاهتمام بالمظاهر، وتبني الأفكار المتشددة قد أصبحت سمة بعض الثقافات، ولهذا كانت التوجهات الفكرية عقيدة غير سويّة وبعيدة عن جوهر الدين ووسطيته. يقول المفكر السعودي إبراهيم البليهي: "تمت برمجة الناس في هذا المجتمع بالتنشئة والتعليم والإعلام والمنابر وفي كل وسائل التأثير على ثقافة جنائزية لا تتحدث إلا عن الكفر والحرام". وهو ما يعني به المسلّمات المتوارثة التي غدت بمرور الوقت ضمن الدراج الجمعي (المدافع عنه) حيث يشرح ذلك في محاضرة له بعنوان "كيف يكون للجهل علم" أنّ الثقافة باعتبارها معطى تلقائياً وقبلياً تنطلق من مسلمات لا تفتأ تصبح جهالات تعتقد أنّها معرفة مطلقة، أو حقائق مطلقة، بينما هي مجرد جهالات تصب في مصلحة العقل الجمعي، وأن أي معرفة جديدة تشكل في البداية صدمة، ثم مع الوقت يبدأ العقل الجمعي يتقبلها شيئاً فشيئاً ثم تصبح مشاعة ومعروفة بشكل متداول"[2]

وفي إطار الفهم الديني ذاته فإننا نحتاج إلى تغيير العقليات التي أصبحت تنظر إلى صحيح البخاري ومسلم وتأخذ بكل ما جاء فيهما وإن ناقض ذلك النص القرآني مناقضة صريحة..! كما تقدّر فكر بعض المجتهدين، أو من يوسمون لديها بالمجددين أكثر مما تقدّر السنّة النبوية الشريفة. لهذا شاعت المفاهيم الخاطئة عن الدين فأصبح الدين -في فكرِ هؤلاء- محرضاً على الإجرام والكراهية والفتنة، ومصدِّراً للبغضاء وقتل الأبرياء، مغلّبين الأفهام القاصرة، والنظرات الضيّقة التي تحصرُ الدين في زوايا حرجةٍ جداً، وتجعلُه محل تنفير، ومصدر تشكيك بالسماحة التي تكتنفه وكأنّما هو في نظر الآخر دينُ إرهابٍ، وعنفٍ لأنّهم يرون الأفعال الوحشية التي يقوم بها الزاعمون انتسابهم إليه..!

وفي الأوساط الثقافية والفنية فإنّ هناك قيماً يجب أن تسود، وأفهاماً - في المقابل-يجبُ أن تزول، فالمثقف والفنان والأديب عليهم أن يقدّموا الـ "نحن" على الـ "أنا" لكي تزول الأحقادُ والأضغان، والحساسيات والفتن. وما لم يرتقوا بفكرهم وفنهم وأدبهم لكي يكونوا قدوات حسنة للمجتمع الذي يتلقى رسائلهم سيتحولون إلى وسائلَ هدم وتدمير لمجتمعاتهم بدل أن يكونوا وسائل إصلاح. وما لم يكن ولاؤهم المطلق للوطن لا للطوائف ولا للمذهب فلن يستقر للوطن من قرار ولن يهنأ له من بال. يحدّثني مثقف خليجي بقوله: كنّا نحسبُ أن بعض المثقفين سيشكّلون محور وفاق وطني لكنّهم خذلوا وطنهم بإعلائهم الولاء للطائفة والمذهب لا للوطن الذي كان يأمل منهم أن يكونوا متاريس أمان، ومصدّات فتنة طائفية في مجتمعهم..!

إنّ العقليات في مجتمعاتنا قد ترسّبت فيها الأفكار والمفاهيم فتوارثتها وكأنّما هي أمور مقدّسة لا يجوز التشكيك فيها ولا التحاور معها أو إثارة التساؤل فيها، فما العقلُ الباطن إلا وعاءٌ لهذه الأفكار والسلوكيات التي استقبلها من العقل الظاهر أو الواعي فأصبح متحكّماً في كل الأفكار والمعتقدات التي تصدرُ عنه. المصيبة أنّ ثقافة مجتمعاتنا وضعت مصدّات تحبطُ التغيير فرسّخت بعض الأمثلة القائلة مثلا: "من شبّ على شيءٍ شابَ عليه" ومثل "إقطع إصبع ولا تغيِّر طبع" وهو ما يعني استحالة التغيير رغم المحاولات وهذا غير صحيح إطلاقاً..!.

ليس مستحيلاً تغيير العقليات لكنّها عملية أشبه بالصدمة التي يُنعش بها القلبُ المتوقف، متفقاً في قولي هذا مع الأستاذ إبراهيم البليهي في قوله عن البرمجة الثقافية التي تشكلت بسبب المسلمات القبلية أو غيرها من ترسبات العقل الموروثة: "أن تلك البرمجة تظل متحكمة بالمجتمعات إلى أن تشهد هذه الأخيرة صدمة حضارية تقيم بها قطيعة معرفية مع تلك المسلمات".

ولوضع هذا الكلام موضع التطبيق فإنّه لابد من فرض التغييرات على المجتمع بعد تهيئته بالقوالب الجديدة، والعادات المناسبة، والسلوكيات السوية التي من شأنها تغيير وجهة المجتمع ودفعه إلى النمو في مختلف المجالات منطلقاً في فضاءاتٍ من الحريّة المسؤولية، ومنضبطاً نحو أهدافٍ واضحة شارك في وضعها، وأسهم في بلورتها.

الشاهد من هذا القول إذا كان البشر يقاومون التغيير والانتقال من مرحلة الرضا بالوضع الراهن إلى مرحلةٍ يتخفون منها - كما توصلت إلى ذلك الدكتورة Pat Zigarmi في دراسة أجرتها في جامعة تكساس في الولايات المتحدة الأمريكية- فإنّه لا يمكن الاستسلام لمعتقداتهم هذه التي تبقي المجتمعات بليدة خامدة، لهذا يجب العمل حثيثاً من أجل تحفيزهم على التغيير. لذا فإنّ أهم عامل في تغيير العقليات هو إيجاد مناخات مشجّعة لإيجادِ "عقليات متفتحة" تحل بديلاً عن أصحاب "العقليات المنغلقة" تقول الباحثة النفسانية الدكتورة Carol Dwek في كتابها"Mindset: The New Psychology of Success":"أولئك الذين يعتقدون أنّ بإمكانهم تغيير أو تحسين سماتهم الشخصية مع مرور الوقت يمتلكون "عقلية متطورة" ويعتقدون أن المستقبل يقدم لهم فرصة للتقدم، حتى في الأوقات العصيبة".



[1]http://unctad.org/en/PublicationsLibrary/dtlstict2014d1_en.pdf

[2] - موقع صحيفة الرياض الإلكتروني http://www.alriyadh.com/737654

تعليق عبر الفيس بوك