لغة الضَّاد وسحر البيان

جوخة الشماخيَّة

اللغة العربية الزاخرة بمعطياتها وإمكاناتها، ستظل تفخر لكونها لغة كتاب منزّل من السموات العُلا؛ فقد خصَّها الله من دون اللغات بأن تكون وعاء يحوي مفردات القرآن الكريم -ألفاظه ومعانيه- وأي لغة حازت هذا السبق؟!.. تتقازم جميع اللغات أمام بيانها وسحرها، فقد أوتيت من الخير كثيرا، إنه السحر الحلال؛ فكيف لا تكون كذلك وهي استطاعت أن تأسر قلوب سادات قريش وتخلب عقولهم؟ فحين سمعوا آيات الله تُتلى لانت قلوبهم وخضعت عقولهم أمامها، رغم جبروتهم ومكابرتهم للإسلام وللنبي الكريم، فسوَّلت لهم أنفسهم بأن يتهموه بالساحر والشاعر والمجنون والكاهن، فكيف يستمرون في مكابرتهم وهم فصحاء مكة الذين أوتوا من البيان ألوانا؟ فهذا الوليد بن المغيرة والد خالد بن الولي يطلق عباراته المشهورة التي وصف بها القرآن الكريم حين سمع رسول الله يتلوه إذ قال: "والله لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من كلام الأنس، ولا من كلام الجن، إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يُعلى عليه"؛ فهذا اعتراف سيد من أسياد قريش رغم أنه كافر.

وذلك عُمر بن الخطاب -رضي الله- عنه حين عَلِمَ بإسلام أخته فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد بن عمرو، انطلق مسرعاً غاضباً إليهما، فضرب عمرُ سعيدًا، ثم ضرب فاطمة ضربة قوية شقت وجهها، فسقطت منها صحيفة كانت تحملها، وحين أراد عمر قراءة ما فيها أبت أخته أن يحملها قبل أن يتوضأ، فتوضأ عمر وقرأ الصحيفة وإذ فيها: "طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى" فاهتزّ عمر، ورقّ قلبه، وقال: "ما هذا بكلام البشر"، وأسلم من ساعتها.

لقد أكسب القرآن الكريم اللغة العربية الديمومة والبقاء، فكُتب لها الانتشار بانتشار الدين الإسلامي، فوصلت إلى أقاصي العالم، فأصبحت لغة ثقافة وحضارة، بل ونقلت حضارات الأمم الأخرى من خلال الترجمة، وتراثنا العلمي في مختلف مجالات المعرفة يشهد بذلك؛ فاللغة في كل زمان وأوان تُعدُّ رمزَ هُوية لكل أمة، وصلة وصل بين ماضيها وحاضرها ومستقبلها. إن اتهام اللغة العربية بعدم قدرتها على مواكبة مستجدات العصر الحديث لهو اتهام جائر وباطل فالذين وسموها بهذه الصفة، هل يتوقعون بأن يكون ذلك الكم الهائل من الألفاظ التي احتوتها معاجم اللغة قاصرا عن مواكبة أحداث العصر؟! وهي التي احتوت المصحف الشريف بكل معانيه وألفاظه؟ ثم كيف تعجز عن ذلك ومعروف عنها بأنها لغة اشتقاق وترادف؛ إذ تتعدد الألفاظ فيها لمعنى واحد، أو تتعدد المعانى فيها للفظ واحد؟! إن الغرب من المسلمين وحتى غير المسلمين لفتت لغة الضاد انتباههم، فمن خلال فهمهم العميق لها تعمّقوا في فهم آيات الله، ولم يقتصر هذا الاهتمام على المسلمين فقط وإنما حتى غير المسلمين، فاليوم هم ينقّبون ويدرسون الظواهر الكونية ويضعون لها تفسيرات ويربطونها بآيات الله، فهم بدأوا بذلك بعد أن انقطع علماء العرب عن هذا الدور، فيؤكد الباحثون في تاريخ العلم والفلسفة أن العلماء المسلمين قاموا بدراسات مذهلة في العلوم والطب والهندسة والفلك يوم لم يكن للغرب أي تصور عن مثل هذه المسائل، وابتكروا اختراعات هائلة، لكن منذ عشرة قرون أي بعد القرن الخامس الهجري -للأسف- أهملوا هذا النوع من الدراسات، فاستلم الغرب الراية وتقدموا نحو الأمام كثيرًا، وبهذا تسنَّى لهم وضع حجر الأساس لكثير من العلوم الطبيعية، وما أطلق عليه بالاكتشافات العلمية.

إنَّ الوضع القائم للغة القرآن وضع يُؤسف له، طلابنا يتخرجون من التعليم العالي بمؤهلات عليا وهم لا يعرفون أبسط القواعد الإملائية والنحوية، وغير قادرين على التعبير من أين وصلنا لهذا المستوى؟ من الجفاء الذي تجده اللغة في مختلف أنواع التعليم بدءا بالتعليم العام وانتهاء بالتعليم العالي الذي اتّخذ لغة التدريس لغة مختلفة تماما عن لغة الطالب الأم، والخبرات البسيطة التي تقدم لطالب الدراسات العليا تكون من خلال متطلب يقدم له في سنوات دراسته الأخيرة، فيتخرج الطالب ولا يمتلك شيئا من لغته، وبالتالي لا يستطيع ممارسة التحدث والكتابة بصورة صحيحة، فإذا كان طالب التعليم العام يدرس ما يقرب من سبع مواد باللغة العربية ويعاني من فهم المقروء، فكيف سيكون الوضع حين يدرّس بلغة بعيدة تمام البعد عن لغته الأم؟ واللوم هنا يُلقى على أقطاب كثيرة وبالذات من يصيغون السياسات التعليمية، ثم نعود ونقول لدينا ضعف في اللغة العربية.

ومن الجوانب التي لا يمكن أن نتغافلها أيضا الإعلام واللهجات التي تُلاك فيه، فبعض المذيعين لا يكتفون بالتحدث باللهجة، وإنما يقحمون كلمات وعبارات باللغة الإنجليزية أثناء حواراتهم في بعض البرامج، وفي الحقيقة البعض لا يكاد يعرف من الإنجليزية سوى بضع كلمات، ويفتقد الجم الكثير من مفردات العربية. لا نطالب الإعلامي بالتحدث بلغة معجمية صعبة، وإنما لغة بسيطة وواضحة ومباشرة قادرة على توصيل الرسالة إلى شرائح المجتمع كافة. لا وجه للمقارنة بيننا وبين الغرب في تقديرهم واعتزازهم بلغاتهم، هم لديهم غيرة ولا يرضون بأن ينتهج التعليم معهم غير لغتهم الأم، ولا يدرّسون أبناءهم في مراحل عمرهم الأولى سوى بلغتهم، ونحن لغتنا لغة عبادة نظرا لارتباطها بالقرآن الكريم هجرناها ونسيناها، من أجل ماذا؟ ليقال بأننا نساير التطور والتقدم؟ وكأن ممارسة اللغة العربية كتابة أو تحدثا باتت عيبا أو وصمة عار تقلل من شأن العربي، ولا ندري بأن الغرب يفرح لذلك، لأننا أصبحنا قوما مستعدين لأن نتخلى عن كل ما يمثل هويتنا والتي من ضمنها اللغة، وبدأنا نتخلى تباعا عن أمور شتى. ناهيك عن التلوث اللغوي الذي أصبح يعتري الرسائل والمنشورات التي تملأ وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، فقد اختلط حابلها بنابلها، فتشابهت كلمة "الظِلال" مع "الضَلال"، و"حضر" مع "حظر"، وأسقطت همزات ينبغي أن تُكتب، واحتار البعض في شكل الهمزة المتوسطة، هل هي على واو أم ألف أم ياء؟ ومثل هذه القواعد تدرّس منذ السنوات الأولى لالتحاق الطفل بالمدرسة، فأين ذهبت؟ حتى الرسائل الرسمية واللوحات الإرشادية داخل المؤسسات الحكومية تضج بالأخطاء، وواجهات المحلات وغيرها، ولا رقيب على ذلك، فماذا نريد بعد أن أوكلنا كتابة هذه اللوائح لجنسيات لا تمت للعربية بصلة؟! وإنني لأراها تشكر بأنها استطاعت أن تكتب بعض الحروف.

العربية ليست بضعيفة، ولن تكون كذلك، إنما الضعف والإهمال في أهلها، فقد وصل البعض للتمادي في نظرته للغته الأم، فأصبح يخجل أن يتحدث بها، فوالله من الأجدر أن نخجل من أنفسنا لأننا عققنا لغتنا الأم. وأخيرا، عقدت الكثير من المؤتمرات والملتقيات والندوات، وخرجت بتوصيات ومناشدات شتّي، كل ذلك مجرد جانب نظري، يبقى التفكير بجدّية ووضع خطط فعلية تخرج للنور وتنفّذ على أرض الواقع، وهذا ما بتنا نأمله، ونتمنى فجرا جديدا يشرق وتشرق معه حروف الضاد.

تعليق عبر الفيس بوك