محنة الثقافة والمثقف العربي.. "جورج طرابيشي أنموذجًا"

علي بن مسعود المعشني

تُوفِّي الأربعاء 16 مارس الجاري المفكِّر العربي السوري جورج طرابيشي عن 77 عاما. وطرابيشي هو مفكر وكاتب وناقد ومترجم عربي سوري، من مواليد مدينة حلب عام 1939، يحمل الإجازة باللغة العربية والماجستير بالتربية من جامعة دمشق. عمل طرابيشي مديرا لإذاعة دمشق (1963-1964)، ورئيسا لتحرير مجلة دراسات عربية (1972-1984)، ومحرراً رئيسيًّا لمجلة الوحدة (1984-1989).أقام فترة في لبنان، ولكنه غادره بسبب الحرب الأهلية إلى فرنسا التي أقام فيها متفرغا للكتابة والتأليف. ونشرت "العربية نت" في صفحة الرأي المقال الأخير للمفكر الراحل طرابيشي بعنوان "ست محطات في حياتي"، وهو أشبه ما يكون بسيرة ذاتية مُختصرة. وكتب طرابيشي بتفصيل في المقال الأخير عن التحولات في تدينه، ومن ثم التوجه البعثي، والدخول إلى السجن، وصولا إلى اهتمامه بدراسات سيجموند فرويد، والتي أثرت فيه كثيراً. وتميز طرابيشي بكثرة ترجماته ومؤلفاته؛ حيث إنه ترجم لفرويد وهيجل وسارتر وبرهييه وغارودي وسيمون دي بوفوار وآخرين. وبلغت ترجماته ما يزيد على 200 كتاب في الفلسفة والأيديولوجيا والتحليل النفسي والرواية. ولطرابيشي مؤلفات مهمة في الماركسية والنظرية القومية وفي النقد الأدبي للرواية العربية، التي كان سباقاً في اللغة العربية إلى تطبيق مناهج التحليل النفسي عليها.

ومن أبرز مؤلفاته: "معجم الفلاسفة" و"من النهضة إلى الردة" و"هرطقات 1 و2" ومشروعه الضخم الذي عمل عليه أكثر من 20 عاما وصدر منه خمسة مجلدات في "نقد نقد العقل العربي" كان آخرها الجزء الخامس "من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث" (دار الساقي، بيروت، 2010)، أي في نقد مشروع الكاتب والمفكر المغربي محمد عابد الجابري، ويوصف هذا العمل بأنه موسوعي؛ إذ احتوى على قراءة ومراجعة للتراث اليوناني وللتراث الأوروبي الفلسفي وللتراث العربي الإسلامي (العربية نت).

جورج طرابيشي ظاهرة ثقافية وفكرية عميقة وليس حالة فردية يُمكن تجاوزها أو طيها أو تجاهلها؛ فهو من النُّخب التي عول عليها لتشكيل العقل الجمعي للأمة العربية، ومن النُخب الناقدة بوعي عميق لمفاصل وأطوار ومراحل الحضارة العربية الإسلامية؛ كونه ابن شرعي للعروبة الصادقة كحالة حضارية راسخة غير قابلة للأيديولوجيا أو الزبونية السياسية، وابن شرعي كذلك للثقافة الإسلامية والقرآن الكريم ككل الأصفياء الفكريين من نصارى الشرق والذين قدموا الإسلام وقدموا له ما يفوق أبناءه في كثير من الأحيان.

فقراءة جورج طرابيشي وأمثاله من المستبصرين النصارى العرب للإسلام ليست كقراءة المذهبيين ولا الانتقائيين من أبنائه، بل قراءتهم له كدين سماوي خاتم وعالمي ودين سلام ومحبة ونبيه متمم لمكارم الأخلاق ومبعوث رحمة للعالمين، دين لا يختص بقوم أو أمة ولا يعترف بجغرافيا أو زمن بعينه ولا يصطدم مع فطرة.

تجسَّدتْ في رحلة جورج طرابيشي الفكرية والحياتية كل معاناة المفكر والمثقف العربي الحر ذي الرسالة تجاه أمته وحضارته، لهذا عاش غريبًا ومات غريبًا.. يقول العلامة ابن سينا: "بُلينا بقوم يعتقدون بأن الله لم يهد سواهم"، ولسان المثقفف والثقافة العربية تقول: "بُلينا بقوم لا يقيمون وزنًا للثقافة والمثقف".

فالنظرة الرسمية للثقافة والمثقفين في الوطن العربي لا تتعدى الفهم المكتبي لها؛ فرغم أنَّ المثقفين هم من يقودون الرأي العام ويؤثرون فيه سلبًا وإيجابًا، إلا أن النظرة الرسمية لهم لا تتعدى مساواتهم بالموظفين البيروقراطيين في الجهاز الإداري للدولة، دون أدنى تمييز أو تحفيز مراعاة لإبداعاتهم وأعراض الإبداع عليهم من قلق وتوتر ومظاهر المعرفة الحزن التي تتلبس بالمثقف وترافقه من المهد إلى اللحد فـ "من يعرف أكثر يتألم أكثر" وهذه قاعدة من مسلمات الفكر والثقافة.

حلم كل مثقف عربي في زمننا لخَّصه المفكر الراحل جورج طرابيشي في عباراته التالية في لحظة صدق وواقعية: "فشلت في أن أكون غنيًّا، فرغم أنني تجاوزت الستين، وكتبت وترجمت نحوًا من مائتي كتاب، فإني ما زلت مضطرًا حتى اليوم للعمل والكتابة الصحفية لتأمين القوت اليومي، ولكن لكي أكون واضحًا، فأنا ما أحببت الغنى للغنى، ولكن كنت دومًا "أحلم" بأن يكون لي دخل "متواضع"، ولكن كاف لكي أتفرغ تفرغًا تمامًا للكتابة. وهذا ما لم أنجح فيه إلى اليوم".

--------------------------

قبل اللقاء: "أنا شخصيًّا متشائم، ومصدر تشاؤمي أنَّ النهضات لا تصنعها سوى النُّخب، والنُّخب العربية اليوم في حالة يُرثى لها. أقول ذلك آسفًا، وأتمنى أن أكون مُخطئًا (جورج طرابيشي).

وبالشكر تدوم النعم.........!

Ali95312606@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك