شتائم.. كل يوم

أمل السعيديَّة

تقول الكاتبة الفرنسية سيمون دي بوفوار: "أجل أنا مثقف ويغيظني أن نجعل من هذه الكلمة شتيمة". لابد أن ما سيتبادر الى ذهنك الآن صديقي القارئ، أنني سأدافع عن المثقفين وسأذهب بمقالي هذا للحديث عنهم، وهذا يعني الخوض في نقاشات طويلة حول تعريف المثقف وأدواره، لكنني مع الأسف سأخيب ظنك، أن ما يتعرض له المثقف اليوم من محاولة للتنميط على نحو سيء ومبتذل هو حالة واحدة من حالات كثيرة، بتنا فيها نشاهد تعريض الكثير من المعاني الجميلة الى السخرية، أتفهم أن لهذا أسباباً يقع بعضها على عاتق من يُسخر منه، لكنها في مناسبات أخرى أضحت موضة، نوعٌ من الاتفاق الجمعي على نكتة خرقاء. دعوني اسرد لكم بعض الأمثلة الدالة على ما احاول قوله: يتم ربط مناسبة معرض الكتاب ببيع الذرة، فيتبادل البعض رسائل عن الذهاب الى معرض الكتاب لشراء الذرة فقط. لا اعرف كيف يمكن لهذا ان يكون مضحكاً او مسلياً حتى، لندع الكتب والمثقفين ولننتقل الى أمثلة اخرى، الرسائل التي يتبادلها الناس عبر مواقع التواصل الإجتماعي عن الحب، والتي تنتهي غالباً بإشارات قميئة عن استحالة تحققه، او قدرة رجل عماني او امرأة عمانية على ان يحظيا به صورة اخرى لتعريض قيمة عظيمة كالحب الى السخرية والتشويه. واليوم بات من غير الممكن ان تعبر لأحدهم عن حبك لفيروز والقهوة مثلاً، لأن هذا يستدعي فوراً مقولات مبتذلة عن هذه الأشياء مجتمعة، ناهيك عن ردود الافعال التي ستتلقاها فيما لو تغيرت كلمة في لكنتك فإستبدلتها بأخرى فصيحة او عقدت على أن تناقش الامور بتروٍ قبل ان تصدر أحكاماً لان هذا كله يعني انك "متفلسف" وهذه شتيمة أخرى في مجتمعنا.

هكذا جرى الاتفاق على معالجة الكثير من المواضيع، اننا نبدو كمن يركض مسرعاً على نفس الوتيرة، ومن غير المقبول ان نفسح لانفسنا مساحة للتأمل في الاحكام قبل متابعة تبينها، في هذه الحرب الضروس التي تم تسليع كل شيءٍ فيها، كلٌ حسب قيمته في السوق، صار من العصي علينا ان ندع لبعض المعاني فرصة تحققها حتى وان لم نمتلك عليها دليلاً موضوعياً، لانها تخص الذات وتؤثر فيها. وانا لا اعني هنا تلك المواقف التي يعاب فيها المرء على اي سلوك ثقافي يتوخاه بل حتى اشارات البعض لتفاهة وسائل التواصل الاجتماعي، كأن يقول "من يستخدم الانستجرام تافه". كلها تسير في نفس الاتجاه.

مرة طلبتْ مني زميلتي في السكن الجامعي ان ارافقها الى معرض الكتاب، فقالت صديقتها الواقفة معنا والتي كانت في الفصل الدراسي الاخير في كلية التربية: "والله ما عندكم سالفة، انا كتب الجامعة ارميها، بس بروح اكل معكم ذرة"، وضحك الجميع. في تلك اللحظة بالذات شعرتُ ان هذا مرعب الى درجة كبيرة، ان تقول هذا طالبة ستصبح معلمة بعد شهور قليلة وان يكون الانسان فخوراً بأنه لا يقرأ. اعتقد اننا نبالغ في عدم تقديرنا للكثير مما نجهله، وما ينقصنا الآن هو ان نعيد محاولة ترتيب بعض المواقف، وان نتجنب الأحكام المعلبة والجاهزة لوصف اي شيء ما لم نجربه بأنفسنا، وان لم نفعل، فلنقدم على فهم التصرف ومن اخذ به كمحاولة لتقبل الجميع في هذا الوطن الذي سيخسر اشياء كثيرة فيما لو بقينا على ما نحن عليه اليوم. وليس من الصعب بما كان ان نكتشف في هذا كله فوقية واستعلاء واضحين، كما سنكتشف ارتباك المجتمع امام الكثير من القيم ومفاهيمها و تطبيقاتها، ارتباكاً يشتمل على الخوف منها في احيان كثيرة او من عدم القدرة على استخدامها والتفاعل معها، كأنما يشك افراد هذا المجتمع في ثقتهم بأنفسهم وبقدرتهم على فهمها جيداً، وهذا حسب رأيي لا يكون واضحاً في مناسبات كثيرة بالنسبة لهم.

لو أنك شاهدت شاباً يجلس امام البحر، عصر يوم في هذا الاسبوع، مستغرقاً في التفكير كما يبدو على هيئته، ما الذي سيداخلك من اسئلة وأحكام؟ ألن يكون عظيماً ان نقول معاً: انه يحاول ترتيب حياته. بدلاً من ان نقول (المسكين مدعي الرومانسية).. بسخرية طافحة: (ما عنده سالفة)؟!

تعليق عبر الفيس بوك