حقوق الطفل وعقبة الثقافة السائدة

فيصل الحضرمي

شَهِدتُ مؤخراً محاضرة حول حقوق الطفل قدمتها إحدى المتخصصات بوزارة التنمية الاجتماعية؛ بهدف نشر الوعي بحقوق الطفل بين العاملين بالقطاع الصحي وتعريفهم بالجهود المبذولة لضمان حصول الطفل على هذه الحقوق وبالدور المتوقع منهم الاضطلاع به ضمن هذا الإطار. حاولت المحاضرة تغطية الموضوع بكامل جوانبه وامتدت لأكثر من ثلاث ساعات موزعة على ثلاثة أيام. كانت المحاضرة غنية بالمعلومات الجديدة على أغلب الحاضرين وأثارت الجدل في عدة مواضع من النقاش حول العديد من النقاط المذكورة التي لا أود هنا الإسهاب فيها بقدر ما أنوي التحدث عن طريقة تفاعل الحضور مع المادة المطروحة كيفية استجابتهم وتجاوبهم مع ما جاء في المحاضرة.

يُمكننا عادةً الحكم على درجة تجاوب الجمهور مع أية فعالية حتى قبل موعد انطلاقها من خلال ملاحظة عدد الحاضرين. كان الإقبال على المحاضرة ضعيفاً وأقل من المأمول. قد يكون أحد الأسباب وراء ذلك إقامة المحاضرة أثناء ساعات الدوام الرسمي، ولكن نفس التوقيت لم يمنع محاضرات أخرى من اجتذاب حضور أكثر كثافة في عدة مناسبات سابقة ما يسمح بالبحث عن سبب آخر أكثر وجاهة قد يتمثل في الاعتقاد الخاطئ لدى غالبية الذين استهدفتهم المحاضرة بأن موضوعها لا يضيف جديداً إلى ما يعرفونه بالفعل وفي نظرتهم القاصرة إليه على أنه مجرد تحصيل حاصل، دون أن ننسى الريبة التي يتعامل بها البعض مع كلمة "حقوق" بشكل عام سواء ورد ذكرها بصدد حقوق الإنسان أو حقوق الحيوان أو غيرها من الحالات. هذه الحقوق، التي ابتدعها وصاغها وقننها الآخر الغربي، تثير حساسية الكثيرين ممن يميلون إلى الوقوع في تناقض التأكيد، من جهة، على أن هذه الحقوق هي من صميم الإسلام وأن الغرب لم يأت بجديد بهذا الخصوص، والقول، من جهة أخرى، بتفاهة هذه المطالب أو عدم معقوليتها أو عدم توافقها مع خصوصية مجتمعاتنا.

هذا التناقض يُمكن رصده بسهولة فيما يتعلق بحقوق الطفل أيضاً. فلن يختلف اثنان على أن للطفل حقوق متفق عليها ما دامت كلمة حقوق عامة وغير مشروحة، لكن ما أن يتم التطرق إلى التفاصيل حتى تظهر الاعتراضات وتطفو التناقضات على سطح الكلام. يعتقد البعض أن حقوق الطفل تقتصر على أن يتحصل على التربية الحسنة والتعليم الجيد والرعاية الصحية دون أن يخطر ببالهم أن هناك حقوقاً أخرى كحق الانتماء، وخصوصاً للأطفال مجهولي الأب أو الأبوين ممن يرفض الكثيرون احتضانهم كما يرفضون فكرة منحهم اسماً طبيعياً يحوي اسم القبيلة، وحق عدم التمييز ضدهم كما يحصل في حالات عدم منحهم الحق في التعبير بحجة صغر سنهم مثلاً، وحق الحماية الذي يجهل الكثيرون أنه لا يقف عند حدود الحماية الجسدية وإنما يتعداها ليشمل الحماية النفسية والحماية من الإهمال والحماية من المؤثرات السلبية كتلك المبثوثة في وسائل الإعلام وطرائق التواصل الاجتماعي أو عبر ألعاب الفيديو، وحقهم في بيئات صحية خالية من الأمراض والعنف ومسببات التوترات النفسية. كما يجهل الكثيرون أن الواجب يحتم عليهم الإبلاغ عن أي حالة إساءة يتعرض لها طفل من الأطفال سواء بالتقدم مباشرة إلى الجهات المعنية أو عبر الاتصال بالرقم الساخن 1100. كما أن للطفل حقوق ينبغي مراعاتها حتى قبل أن يخرج إلى العالم من قبيل حقه في أن يقوم الثنائي الراغب في تأسيس أسرة باختبارات ما قبل الزواج لتجنيب ثمار الالتقاء مختلف الأمراض الوراثية المحتملة.

ليس هذا وحسب، بل أن الحقوق المعلومة للجميع، كحق التربية الحسنة مثلاً، تستدعي إعادة النظر في التعريفات الممنوحة لهذه الحقوق والطرق المتبعة لتوفيرها. فما هي التربية الحسنة في الأساس؟ ما شكلها؟ وما هي الوسيلة الأنجع لتربية الأطفال؟ هل يُكتفى بالعقوبة السلبية أم أن الضرب لا غنى عنه لغرس السلوكيات الإيجابية في الطفل كما تتوهم الأغلبية الساحقة في مجتمعاتنا؟ ثم ما هو التعليم الجيد؟ ما الذي على الطفل أن يتعلمه ومتى وما هي الأدوات؟ بالتلقين أم بالحوار؟ بالصراخ والتلويح بالمعاقبة أم بإثارة الفضول والتشجيع والمكافأة؟ وما هي الرعاية الصحية التي ينبغي توفيرها للطفل؟ هل ينبغي الاكتفاء بالخدمات المقدمة من المؤسسات الصحية الرسمية؟ ماذا عن الطب التقليدي والممارسات الشعبية؟ ماذا عن الوسم والشطب والرقى والتعاويذ؟ نقاط مثل هذه هي التي يقع حولها الاختلاف في العادة وهو ما حدث أيضاً أثناء المحاضرة التي كشفت وجود كثير من الأفكار الخاطئة لدى الحضور الذي كان يفترض بثقافته أن تكون أكثر علمية وموضوعية نظراً لنصيبه الجيد من التعليم. ولم يخلو الاختلاف هنا كالعادة من شيء من السخرية والاستهتار بالموضوع وخصوصاً تفاصيله الأكثر تضاداً مع الأفكار الشائعة والتصورات الرائجة.

أحد الأسباب التي تقف حجر عثرة أمام ضمان حقوق الطفل هو التشوه المعرفي والثقافة الشعبية السائدة في مجتمعنا. وبقدر ما سيبدو هذا الكلام غريباً إلا أن الواقع يخبرنا أن أسوأ التشوهات المعرفية هي تلك الموجودة عند من يطلق عليهم "أنصاف المتعلمين" من حملة الشهادات الجامعية وليس عند الذين لم يتحصلوا على قدر كبير من التعليم. والمقصود بأنصاف المتعلمين هنا أولئك الذين تتساكن في رؤوسهم الثقافة العلمية، الموضوعية، المتحصل عليها من المؤسسات التعليمية الرسمية كالجامعات والمعاهد، جنباً إلى جنب مع الثقافة الشعبية المكتسبة من المجتمع. فبعكس الفئة ذات التحصيل العلمي الأقل التي يسهل إقناعها ببطلان أفكارها واعتناق أفكار بديلة، فإن الفئة الأخرى أقدر من سواها على تحصين تشوهاتها المعرفية نظراً لأن الدراسة الجامعية والخبرة العلمية أتاحت لها امتلاك أدوات التعليل والتبرير والمنافحة عن معتقداتها وآراءها غير الصحيحة مما يعطيها القدرة على إضفاء صبغة الحقيقة على الأفكار الأكثر بعداً عن الحقيقة. هذه القدرة المدهشة على التضليل توقع صاحبها نفسه في شرك الجهل بجهله، أو ما يعرف عادة بالجهل المركب، كما توقعه في التناقضات الصارخة التي تكشف بوضوح وجود مرجعيتين ثقافيتين يتناوب على الانتقال بينهما بمقتضى الموقف.

لا يزال الطريق إذن طويلاً وشاقاً ومليئاً بالمصاعب أمام منح الطفل كافة حقوقه التي كفلتها له الدولة بموجب قانون الطفل الصادر سنة 2014. وتبقى قلة الوعي بهذه الحقوق، والاستهانة بها من قبل شريحة كبيرة من المجتمع، وجهل الناس، وخصوصاً العاملين بالقطاعين الصحي والتعليمي الذين يعتبرون الأكثر تماساً مع هذه الفئة بحكم عملهم، بالواجبات الواقعة عليهم تجاه الأطفال المتعرضين أو المعرضين للإساءة، وتقاعسهم عن التدخل لحمايتهم عن طريق إبلاغ الجهات المعنية، أكبر العقبات التي تعترض هذا المشروع النبيل الذي لن يكتب له النجاح إلا بتكاتف الجميع وتضافر جهودهم، وقبل هذا وذاك، بإيمانهم الراسخ بهذه الحقوق.

تعليق عبر الفيس بوك