بَيْني وبَيْنك

مُحمَّد المسروري

فاجأني صديقٌ قديم جديد -قِدمَه لسابق معرفتي به وارتباطنا بصداقة امتدت لسنوات وما برحت، إلا أن التواصل المباشر في السنوات القريبة أضحى حكرًا على رسائل متقطعة أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي غير المرئي (إلكتروني)- كعادته في مبتدئ أحاديثه بكلمة "بيني وبينك"، وكنت قد ألِفْتَها من قبل بحكم العادة فلم أُعر الحديثَ أهمية غير الاستمتاع بمناقشاته التي في كثير من الأحيان لا تبتعد بحال عن هزليات الصحبة وذكر المناقب وحُسن الاجتهاد، وإن كانت الحال في غير موضعها تمامًا، إنما المفاجأة الصادمة أن يكون هذا الصديق الحبيب الذي تربطني به أكثر من عليقة، كنت وما زلت أحسبها حبلا سريا يربطني به ويشده بقوة الإرادة إليَّ لنكون واحدًا لا اثنين في النسب والصهارة والفكر والدين...وغير ذلك من وشائج القربى التي تتحدَّى كل وساوس الشيطان وحبائله وقوة ركضه برجله وخيله ليجعل منا اثنين لا واحدا، وأنا الذي أوصدت بكل الصدق كل نافذة وباب لولوج شياطين الإنس والجن بيني وبينه. صدمت حقًا وبكل ما تعنيه كلمة الصدمة الذهنية وأنا أجد أن هذا الصديق الذي يصنفني بين أقربائه وأعز معارفه عنده، بأني عدوه الأول، وأنا الذي بنيته وتبنيته في كثير من أوقاته وحالاته وأخلصت له النصيحة الخالصة ليكون صديقًا صدوقًا، وليس لي في تجاهه ريشة طائر من شأن غير الحب والإخلاص له وإعانته إذا ما واجه شدة من وقت أو حرقة من صديق جديد غير صادق، تبيَّن له نكرانه للود وسلوك مطامع في غايات لم تكن ضمن حسن نواياه، ثم أني أعنته قبل ذلك بكل ما أمكنني من عطاء وعون حتى يكبر ويشب عن الطوق ويبلغ الرشد سنا وعقلا، فإذا به يستعديني، ويصنف كل مواقفي النبيلة سابقة ولاحقة تجاهه بالعدو الأول، اجتهدت وبحثت في كل قواميس اللغة العربية علّي أجد كلمة مناسبة تناظر أو تدحض الآن ذاته فعل مواجهة الإحسان بالنكران، وبعد عناء طويل وجهد جهيد، وجدت أنَّ الإحسان فعل فطري فينا ومُحبَّب لبني البشر مهما بعدت المسافات وتباينت الرؤى بينهم، حتى أرشدني من لا يمت لي بصلة معرفة، دون صداقة أو صلة قربى، إلى حديث لرسول الله -صلى عليه وآله وسلم- يقول فيه: "اتَّقِ شر من أحسنت إليه".

وما زلت في حيرة من أمر: لماذا يتبنى عدو في ثوب صديق هذا الفكر السقيم المحرج له، وقد علم يقينا أني لا أحتاج إلى من يبحث في أفكاره ورؤاه الظاهرة للعيان أمام كل من عرف ومن لم يكن يعرف، ولست محتاجا بحال إلى مطاولته أو مجاراته فيما يراه لأمور تخصه فحسب، لأني أكبره سنا وعقلا، وعُمق جذور في الأرض والشرف، وهو يعلم تمام المعرفة أنه سيعود إليَّ يوما مهما طال الأمد أم قصر لأني ثابت الجنان والجأش!

هذا الإصرار على ولوج طرق أقل ما يمكن وصفها لا تنقصها الرزانة والفكر العميق، ولكن تجانبها الفضيلة في أحيان كثيرة!!

فقلت له ناصحا أمينًا بكل الصدق والأمانة: لك ما شئت في صداقات وعلاقات مع من تشاء الآن في كل اتجاه تراه، والمال ينساب بين أناملك، وأنت بحق لا تملك إلا ذكره، وسأبقى السد المنيع الذي يحرزك من عدوك الأول أنت، أما الآخر فإنَّ علاجه أهون وميسور، وممكن بقدرات عرفتها وألفتها في مبتديات حياتك. وكما علمنا قبلا أن القول -كما أردتها أنت- فقط "بيني وبينك"، فلا تخبر به أحدًا أبدا لنبقى صحبة، ولا تترك للمدحلة مجالا لترصيص شبر وحفر عشرات الكيلومترات بيني وبينك، وقطع أواصر قربى تربطك بي، فإنها لا محالة ستعمل على جلب العداوة والبغضاء مع من أكرمك وأروى جذورك هنا بماء نقي، أم ما زلت تراهن على ما تبنيت من عداء وتوهَّمته من كبرياء بحسابات خاطئة وأخيلة نسجتها أو صورت لك وفق نظرية تقارع المصالح؟!!

تعليق عبر الفيس بوك