السلطة

د. صالح الفهدي

 

سؤال للتاريخ: ماذا فعلنا؟ (36)

 

تفاجأ مديرُ المدرسةِ برجالٍ ثلاثةٍ يقفون على رأسه وهم يطلبون بالاسم أحدَ مُعلِّمي المدرسة، ليسوقوه مُقيّد اليدينِ لسببٍ مجهولٍ لا يعرفهُ غير صاحبُ السلطةِ الذي أرسلهم..! ترجّاهم المدير بأن يحفظوا للعلمِ مكانته، وللمدرسةِ سُمعتها، وللمعلمِ كرامته، فأذعنوا عن مضضٍ، وكبّلوا أياديه خارج سور المدرسة، واقتادوا المعلّم الذي غشيه هولُ الصدمة إذ لم يعرف الجُرمَ الذي اقترفه، ولم يجد جواباً في سبب تكبيله، واقتيادهِ إلى جهةٍ غير معلومةٍ. إلاّ أنّه ما أن مثل أمام شخصٍ ما حتى كشفَ السر..! لقد كان ذلك وليّ أمر طالبٍ أرادَ أن يعرّفه بقوة سلطته التي تجرّهُ كالمجرمِ إن هو رفع صوته على ابنه..!

السلطةُ ميدانُ اختبار للإنسان، فهل هي التي تُفسد الإنسان أم هو الذي يُفسدها..؟! جواب ذلك عند الروائي الأمريكيWilliam Gaddis إذ يقول:" إنّ السلطة لا تُفسد البشر، ولكن البشر هم الذين يُفسدون السلطة"، وصدقُ ذلك قد بيّنه جلالة السًّلطان -حفظه الله- إذ يقول:"الوظيفة تكليف ومسؤولية قبل أن تكون نفوذاً وسلطة". إن الاصطلاح الدارج للسلطة هو النفوذ والهيمنة والاستبداد أكثر من المسؤولية والتكليف ويرجع ذلك إلى السبب الذي وضّحه غاندي بقوله المأثور:" كثيرون حول السلطة.. قليلون حول الوطن".

الثقافة المُتجذرة في مجتمعاتنا تقدّر - في الأغلب - قيمة الإنسان بما يملكه من مال أو نفوذ أو منصب يُمارس فيه أقصى القدرات السلطوية التي يمكنها تحقيق المصالح كما يرى ذلك المتزلّفون والمتملقون لهذا لا غرابةَ أن يقول أحدهم لمسؤولٍ حين سأله وهو يُغادر مكتبه إن كان في خاطرهِ شيء أن يجيبه:"الحاجة داعية ما دمت على ذلك الكرسي"..! لقد عبّر بما هو شائعٌ من نظرةٍ نحو صاحب السًلطةِ، كما أنّه ليس غريباً أن ينفضَّ الازدحامُ من مجالس أصحاب المناصبِ إن هم تركوها فَجُلُّ الجلاّس من طلاّب المصالح الذين لا تؤمن بوائقهم ساعة حصولهم على مُبتغاهم..!

أمّا الوطنُ فهو على المحكّ عند ملاّك السُّلطة، والمتحكمين في زمام القرار لأنّ الأكثرية قد عكست المفاهيم فصارت تمارسُ التسلّط - بطريقةٍ أو بأخرى- كلّ بحسبِ ما يمتلكُ من سلطات وإن كانت مجرّد لباسٍ يدلّ على جهةٍ أمنية، أو سيارةٍ تحمل اسم هيئةٍ رقابية..!!. في الغرب يسمّى موظفو القطاع الحكومي "Public servants" أي "خدم الشعب" وهذا المصطلح هو نفسه الذي وردَ في خطاب جلالته لكبار رجال الدولة عام 1987 حين قال :"وهناك أمر هام يجب على جميع المسؤولين في حكومتنا أن يجعلوه نصب أعينهم، وألا وهو أنّهم جميعاً خدم لشعب هذا الوطن العزيز، وعليهم أن يؤدوا هذه الخدمة بكل إخلاص وأن يتجرَّدوا من جميع الأنانيات وأن تكون مصلحة الأمة قبل أي مصلحة شخصية، إذ إنّنا لن نقبل العذر ممن يتهاون في أداء واجبه المطلوب منه في خدمة هذا الوطن ومواطنيه، بل سينال جزاء تهاونه بالطريقة التي نراها مناسبة".

هذه هي المفاهيم السليمة التي يجب أن تصوّب مفهوم السلطة، وتسدّد وجهتها لأن السلطة إن فرَطَت من عِقْدِها، وانفلتت من عِقَالها، صارت مفسدةٌ مطلقة، وفي هذا السياقِ يصحِّح سُّمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم صاحب الأفكار المستنيرة في وضع أُسس البناء الحكومي السليم قائلاً: "الحكومة ليست سلطة على النّاس، ولكنها سلطة لخدمة الناس، لذلك فإنّ مقياس نجاح الحكومة هو رضا المتعاملين معها" وهذا ما يؤكّد عليه السياسي الأمريكيJames P. Hoffa بقوله:" موظفو القطاع العام هم العيون والآذان على الأرض للمجتمعات التي يخدمونها".

إنّ معظم المشكلات بل وأكثرها خطراً ناجمٌ عن سوء استخدام السلطة، والاستفرادِ بها، والاستقواء عبرها بمقدرات البشر ومصائرهم وموارد الأوطانِ وتنميتها من قِبل الذين ينظرون للسلطةِ على أنّها أداةٌ للاستبداد، ووسيلةٌ للاستعباد..!. هؤلاءِ هم الذين يقوّضون بنيان الأوطان، ويمزقون عرى جبهاته الداخلية، ويتلفون منجزاته الأكثر تأثيراً في تاريخه. ولننظر إلى التاريخ لنرى كيف أنّ فساد السُّلطة هو الذي محق الأوطانَ من الوجود، وشرّد البشر في متاهات التغرّب وألقاهم في أفواهِ الموت والعذاب. يقول رجل الأعمال Malcolm Forbes :"من يستمتعون بالمسؤولية غالباً ما يحصلون عليها، أما من يُحبون مجرد مُمارسة السلطة فغالباً ما يفقدونها". المصيبة أنّهم حين يفقدونها فإنّهم لا يتضررون وحدهم بل تتضرر أمّةٌ بأسرها، فكم من قرار لمستبدٍ دفعت أجيال تلو أجيال أثمانه المؤلمة. ومع ذلك فإنّ أغلب من يفقدون السلطة لا يتأثرون بل يعيشون ويتنفسون وإن كانوا قد أفسدوا في استخدام سلطاتهم.

الجميعُ - بحسب الثقافة المتأصلة- يمارسُ التسلّط بما يملك من مساحات وقدرات، فالأبُ مُتسلّط، والمعلّم مُتسلط، والمسؤول في العمل مُتسلّط، وبل ويصل التسلط إلى عالم الدّين وهكذا دواليك .. هي ثقافة عامة لم ينفذ من مصيدتها إلا الذين التفّوا حول الوطن، وأعلوا كلمته، ونظروا للسلطة على أنّها مسؤولية وتكليف، أو عرفوا الله حق معرفته وآمنوا بأن "رأس الحكمة مخافة الله". في أحد المشاريع التجارية البسيطة اقتحم مجموعة من الموظفين الصغار وكأنّما كان اقتحامهم على عصابة مافيا..! كانوا مزهوّين بالسلطةِ لأنّ لديهم أمراً من رئيس فريقهم بالمُخالفة، أفهمهم صاحبُ العمل بالمنطق وشرح لهم كأنّما يشرح لطلاب صغار ضارباً لهم الأمثلة لكي يفهموا الخطأ الذي وقعوا فيه، لكنّ مكابرتهم السلطوية ليس لها آذان فتسمع وإنّما لها صوت حاد يجب أن يخترق آذان الآخرين..!

الإشكاليةُ هنا تقع حين يخادعُ المجتمعُ نفسه إذ يعلمُ أن ثقافة الفسادِ تتفشى فيه ويُمكن أن يمارسها، بل يمارسها بصورةٍ ما لكنّه ينتقدها من جانبٍ آخرٍ، ويبدي تذمّرهُ وسخطه واشمئزازهُ منها..! ما أخبث هذا التمثيل، وما أمكرَ هذا الدّور..!. في العراقِ يظهر نائب في البرلمان العراقي ليُعلن على الهواء فساد الطبقة السياسية "الجميع فاسدون من لابس العقال إلى لابس العمامة إلى الأفندي"..! هذا التصريح جاءَ بعد ثلاثة عشر عاماً منذ الإطاحة بدكتاتور العراق..! ما الذي غيّرته طبقة السياسيين الذين تشدّقوا بالديمقراطية والشفافية ومحاربة الفساد إذن؟! إن لم يجز التعميم فإنّ التغليب جائز لأن تقرير الشفافية في عام 2015 يدلّل على ذلك..!.

بعض المُجتمعات لا تُدرك أنّ الفساد السلطوي ثقافة ضاربة في جذورها، تنخرُ أُسسها، وتنحتُ أركانها، وإن تظاهرت بغير ذلك..! فتصبحُ صورة الدكتاتوريّة نسخة تتوزّعُ على أفراد المجتمع بنسبٍ مختلفةٍ. ما يشجّع على حدّة شهوة السلطة هو تدريسها في كتب الأعمال في الجامعات.. يقولDavid Bergstein الرئيس التنفيذي لمجموعة Cyrano في مقالته "لماذا تفسد السلطة": "إن كتاب The 48 Laws of Power للمؤلفRobert Greene :"هو في حقيقته دمج للكتب الكلاسيكية في الحرب مثل كتاب "الأمير" لمكيافيللي الأمير وكتاب "فن الحرب" لصن تسو، ومع ذلك فهو كتابٌ يدّرس لتخصصات الأعمال، ويتضمن عبارات مثل : " اخفوا نواياكم"، "كلّف الآخرين للقيام بعملك واحصل أنت على المكافأة"، و"تظاهر كصديق ، واعمل كجاسوس"..!!

ما لم يعِ المربّون والمُعلمون والمسؤولون ورجال الدّين وأعضاء البرلمانات والمجالس الاستشارية وغيرهم المفاهيم الشفّافة والمُثل العليا لمعنى وقيمة السلطة فلن تتلاشى كثقافة، وستظلُّ راسخة باعتماد المجتمع وموافقته الضمنية، وإلاّ فما معنى انتقادهِ انتهاك السلطة من ناحية وبحثه عن مداخل الواسطة من ناحية أُخرى..؟! وما جدوى تذمّره من السلطة وهو يسعى من أجل نيلها؟!.

وكأيّ إشكالية اجتماعية نعودُ في الجذور إلى التعليم فأعظم ما يُعززه التعليم في نفس المُتعلم القيم الرفيعة التي تقي الأغلبية من الوقوع في المحظورات، ومكامن الخطر، وعلى رأس تلك القيم الصدق. يقول Thomas Jefferson مؤلف إعلان الاستقلال الأمريكي:"لا يستطيع رجل صادق أن يشعر بأيّ نوع من أنواع المتعة في ممارسة السلطة على مواطنيه". أما المفهوم العام للسلطة فيجب أن يُصحّح ليأخذ مفهوم الراعي الأمين والمسؤول الصادق القابل للمحاسبة والمساءلة، وألا يُقرن صاحب السلطة بالأسطورة، يقول وزير الخارجية النرويجي بورغ برينده: "ليس بالضرورة إن كنّا وزراء أن نكون مختلفين، إن ذلك خطأٌ وخطير، بالعكس يجب أن نكون مثل الآخرين من المواطنين نعيش مثلهم ولا نختلف عنهم، يجب أن نتقرب من عيش المواطنين".

إنّ الوطن مُرتهنٌ بقدر المفاهيم المُتعلقة بالسُّلطة فإن عدلت أمن وأطمأن الوطن وإن انحرفت خاب وخسر.

 

تعليق عبر الفيس بوك